الخاتمة المضيئة في القصيدة النبطية
الشاعر سعد بن جدلان الأكلبي أنموذجا
*مدخل:
الفواتح : أوائل القصائد والخواتم : أواخرها وحسن الابتداء دليل على البيان وكذلك حسن الانتهاء وحسن الأنتهاء :هو أن يختم الكلام بعذب الألفاظ وصحيح المعنى بحيث يشعر السامع بالتمام ولذا يفضل أن تكون خاتمة القصيدة حلوة يؤذن النفس بانقضائها لئلا تكون كالبتراء وخاتمة الكلام أبقى في السمع وألصق بالنفس لقرب العهد بها فتقع من الأسماع والقلوب على حسبها.
ومن أمثلة الأنتهاءات الرائعة في الشعر العربي الفصيح :
قول ابن الرومي في رثاء ابنه :
عليك سلام الله مني تحية ** ومن كل غيث صادق البرق والرعد
وخاتمة تأبط شرا:
لتقرعن علي السن من ندم ** إذا تذكرت يوما بعض أخلاقي
وكذلك قول زهير :
وأعلم مافي اليوم والأمس قبله ** ولكنني عن علم ما في غدٍ عم
*خاتمة القصيدة في الشعر النبطي:
اتجهت معظم القصائد النبطية القديمة في خواتيمهاإلى ختم القصيدة بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كتقليد سائد نابع من النزعة الدينية المغروسة في نفوسهم والأمثلة على ذلك كثيرة نجد ذلك جليا في قصائد راشد الخلاوي والشريف بركات وجري الجنوبي وحميدان الشويعر ويستمر هذا التقليد عند الهزاني وابن لعبون وابن سبيل والقاضي ثم عند ان شريم ولويحان والنصافي والسديري وغيرهم وخاصة في المطولات مع اتجاه للتغيير ورغم ذلك فهناك خواتيم ونهايات مختلفة لعديد من القصائد مثل قول فهيد المجماج :
حبه يخج القلب ما يوجع أوجاع ** لاشك قلبي مودعه بيت نمله
وعند ظهور التقسيم في المرحلة الحالية إلى شعر تقليدي وشعر حديث ما زال هذا التقليد منتشرا عند الشعراء الكلاسيكين ـ كما يسمون في الوقت الحاضر ـ ولكنه اختفى بل تلاشى في قصائد الشباب الذين يسيرون في اتجاه آخر .
*الشاعر ابن جدلان :
وسنعرض هنا لنموذج مختلف لخاتمة القصيدة النبطية لأحد الشعراء المعاصرين المتميزين والذي يعدونه من الشعراء الكلاسيكيين ولكنه تفوق على الكثيرين .
التعريف بالشاعر : هو سعد بن جدلان الأكلبي ينتمي لقبيلة أكلب وموطنها منطقة بيشه ولهجة هذه القبيلة تميل إلى البداوة وتخلو من المفردات الأعجمية شاعر لم يعرفه الإعلام إلا في السنوات الأخيرة رغم أنه يعد في الصفوف الأولى لشعراء الجزيرة يشهد بذلك كبار الشعراء والنقاد شاعر له أسلوبه الخاص في صياغة القصيدة التي لا يطيلها في غالب شعره حتى أن ديوانه المسمى (سمان الهرج ) والذي يحتوي على 82 قصيدة منها 37 أقل من سبعة أبيات فقصائده تتميز بقصرها وجودتها وتركيزها مما ساعد في سهولة حفظها وبالتالي انتشارها بين الناس فهو شاعر مطبوع غير متكلف وألفاظه جزلة رصينة أصيلة فإذا وصف أجاد وإذا تغزل أمتع وإذا مدح أقنع له طريقته العجيبة في الوصف يتعمد أحيانا القوافي الصعبة فيبدع أيما إبداع . وحين يلقي القصيدة بلهجته الجنوبيةالتي يستقي منها مفرداته يلقيها على سليقته بدون تصنع يجبرك على الأستماع إليه طربا .
والشاعر ابن جدلان وان كان له كثيرا من الفوتح والاستهلالات الجميلة مثل :
ألا يالهبوب الباردة عجلي هبي ** على جاش من قامت هواجيسه تلوبه
وقوله:
قابل ياديان واوف حقوق ديانك ** طالت عليه الرجاوي والمواعيدي
وقوله :
أنا وين ابلقى يالأجاويد فاعل خير ** حريص على سر المحبين لرسلته
إلا أن خواتم قصائده ذات خاصية سحرية عجيبة تشنف الآذان وتعلق بالأذهان بل إنها تهز المشاعر بصياغتها وتجد فيها حكمة الشيوخ وعنفوان الشباب وخاتمة القصيدة عند الأكلبي هي عادة ملخص للقصيدة وبيان لموضوعها الرئيس ولكن بحروف ذهبية ولن نعرج هنا لنهايات القصائد التي تقل أبياتها عن سبعة أبيات رغم جودتها التزاما بالعرف الأدبي على اعتبار أنها مقطوعات .
(1)
ولكن لننظر إلى قوله في نهاية رائعه لرائعته الغزلية المسماة (مراسيلنا) :
لامر طرق بخـــــــــدراته ســــلام لي
كنه يسـلم علي بصــوته العــــــالي
خلوني أسج عن موضوعه أحسن لي
وألا الغلا والله إن يبطي وهو غالي
فقد أسدل الستار على القصيدة ببيتٍ متوهج يختصر كل روايات الحب حيث يؤكد عشقه للمحبوب ولذا فكثرة النقاش حول هذا الأمر لا يفيد بقدر مايسبب المتاعب النفسية لهذا العاشق الولهان ولذا فمن الأفضل إغلاق الموضوع وبالتالي إغلاق القصيدة هنا تبرز العبقرية الشعرية .
(2)
ولنتأمل هذه النهاية لقصيدة الديوان الذي سمي باسمها ( سمان الهرج ):
اجمع له سمان الهرج خوف من التقصير
ولاجيت بشرح له كلامي تهيزلته
يجيني منه هيبة معزه سحا تقدير
اقابله عندي علم واروح ماقلته
يعرض الشاعر هنا المشهد الأخير وبعد نهايته يسدل الستار مباشرة صورة جميلة تتجلى روعة بذاتها ولا تحتمل زيادة الكلام بعدها فيجب إنهاء الكلام لأن العاشق حين لم يجد مايليق بالمقام سكت عن الكلام .
(3)
ويختم إحدى قصائد الاجتماعية بحكمة حقيقية بقوله :
فالآدمي لولا المكارم والاخلاق
كالحنظلة من عرقها لي ورقها
بيت بوزن قصيدة مرتبط بما قبله من الأبيات ارتباطاً كلياً ويتضمن لب المعاني والأفكار في قصيدته فلا يصح أن يعقبه ما هو دونه لأنه بيت القصيدة ولبها بل هو النتيجة المنطقية التي وصل إليها الشاعر من خلال مناقشته لموضوع القصيدة ذو الطابع الإجتماعي فختم القصيدة بإعلان النتيجة وكفى .
ومثل ماسبق ينهي قصيدته المميزة (شكوى) بحكمة أخرى :
وانا اعرف من اعادي وانا اعرف من احبي
وبه ناس لاتبغض ولاهيب محبوبة
ويستمر في حكمته لإنهاء قصيدته (أنا بدوي) بقوله:
ولاكل من صادقت تبدي له الغاية
ولاكل من يضرب فجج الخلا خوي
(4)
ويقول في ختام قصيدة أخرى :
من عشق شرواك والا لا يهاوي
التقيد عن بعض الأشياء فضيلة
فيتقيد الشاعر نتيجة لهذا البيت عن فضول الكلام لأن ذلك فضيلة في حد ذاته وبالتالي التزم السكوت بعد هذا البيت هنا يظهر التناغم بين ما يقوله الشاعر وما يفعله فيفوح الختام مسكاًً.
(5)
وقوله في نهاية قصيدة (وضعي):
فالحب من ذاق خمره من رعابيبه
والله ان يكد النواصي بيض ما تابي
الشطر الثاني قفل فيه الشاعر القصيدة بيمين تشكل جواباً لشرطه في الشطر الأول وذلك تأكيداً لصحة كلامه ولا يوجد في كلام الناس أعلى من اليمين كدلالة على الصدق ولذا توجب على الشاعر إنهاء القصيدة.
(6)
ويختصر الوقت ويغلق الباب أمام العذال في ختام قصيدة (يارسولي) فيقول :
عروق الحشا ماتنبت الا على طاريه
تناما على قربه وتهجر على فرقاه
فترى من يعذل مولع من هوى غاليه
مثل من يحاول يعدل السيل عن منحاه
نعم إنه ينهي القصيدة بصورة تتشابه مع من يغلق الباب في وجه العذال فلا فائدة من الكلام معهم لأن محاولاتهم في عذله عن العشق والتعلق بالمعشوق هو من رابع المستحيلات لأن السيل لايمكن أن تغيره عن مجراه الطبيعي إلى طريق آخر وحالة الحب هنا هي الحالة الطبيعية للشاعر وتغيير الطبيعة أمر مستحيل وكفى .
(7)
ويصور عالم الحب بعدسته الخاصة في قصائده الغزلية العذبة ويجعل ذلك خاتمة لإحدى قصائده فيقول :
والمحبة مدرسة شي ثبوت وشي فرار
وانت درسي مع اهل الحب الاول والاخير
مفردة (الأخير) في آخر البيت هنا لم تأت مصادفة بل قصد أن تكون هي آخر الكلام فهذا المحبوب باختصار لايوجد غيره فهو الأول وهو الأخير ولأنه كذلك فلا حديث بعد ذلك بل يقف ثابتاً على الباب الخلفي للقصيدة حارساً أميناً.
(8)
ويستمر هذا الشاعر المبدع في أنتقاء خواتيم قصائدة بعناية فائقة تدل على تمكنه من المعاني والصورالنابعة من قدراته الشعرية المتفوقة حيث يقول :
كل شيٍ أعمله كود الجفيا ** الجفا يزعل وسيعين النهايا
ويقول في قصيدة (مشعف غرامك):
البرق لجا المشعّف زوداشعافه وانا مشعّف غرامك وانت براقي
وقوله :
والمجنب من الأوادم ما يخلا ** لاسلم من شر ذولا جوه ذولا
وقوله :
واحد حظك معا حظه ايساير ** شايف القدر بالعشر الأخيرة
جعل ابو من لامني حمر المناير** في محبة واحد مالي بغيره
الأكلبي شاعر عملاق لايجعل نهاية القصيدة مفتوحة كما أنه لا يبتر القصيدة أو يختمها كيفما ما اتفق، بل يعمل على إنهائها بصورة لائقة تعلق في ذهن القارئ وتبقى في سمعه وتنبض في قلبه فهو يقدم دروساً للأجيال في كيفية إحكام القصيدة وتجويدها بل حمايتها بقفل يجمع المتانة والجمال ويمنع الدخول إلى عالم الاحتمال .
وأخيراً إليكم هاذين النموذجين:وقوله :
والذي ليلة الأسراء عرج بالرسول
ان حبك لحال وحب غيرك لحال
وقوله :
وكانك تبيني يالغضي فالهوى جذاب
انا بارتجيك و وانت حبل الرجا مده
ورغم هذه الخواتيم الجميلة فلم يختفي لديه كشاعر كلاسيكي ختم القصيدة بما هو أجمل من ذلك كله ألا وهو الصلاة على النبي عليه أفضل الصلاة والتسليم مستلهما التراث وممتثلا لنهج السابقين يظهر ذلك في قصيدته (غناة الرجال ) حيث يقول:
وختمانها صلواعددما ينوض بروق
على أفضل نبي عرج به فوق بيراقي