قال الشيخ السعدي في "تفسيره" عند قصة موسى عليه السلام و الخضر:
وفي هذه القصة العجيبة الجليلة ، من الفوائد ، والأحكام ، والقواعد ، شيء كثير ، ننبه على بعضه بعون الله .
فمنها فضيلة العلم ، والرحلة في طلبه ، وأنه أهم الأمور ، فإن موسى عليه السلام ، رحل مسافة طويلة ، ولقي النصب في طلبه ، وترك القعود عند بني إسرائيل ، لتعليمهم وإرشادهم ، واختار السفر لزيادة العلم على ذلك .
ومنها : البداءة بالأهم فالأهم ، فإن زيادة العلم وعلم الإنسان ، أهم من ترك ذلك ، والاشتغال بالتعليم ، من دون تزود من العلم ، والجمع بين الأمرين أكمل .
ومنها : جواز أخذ الخادم في الحضر والسفر لكفاية المؤن ، وطلب الراحة ، كما فعل موسى .
ومنها : أن المسافر لطلب علم أو جهاد أو نحوه ، إذا اقتضت المصلحة الإخبار بمطلبه ، وأين يريده ، فإنه أكمل من كتمه ، فإن في إظهاره ، فوائد من الاستعداد له ، واتخاذ عدته ، وإتيان الأمر على بصيرة ، وإظهار الشوق لهذه العبادة الجليلة ، كما قال موسى : " لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا " وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، أصحابه حين غزا تبوك ، بوجهه ، مع أن عادته التورية ، وذلك تبع للمصلحة .
ومنها : إضافة الشر وأسبابه إلى الشيطان ، على وجه التسويل والتزيين ، وإن كان الكل بقضاء الله وقدره ، لقول فتى موسى : " وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره "
ومنها : جواز إخبار الإنسان عما هو من مقتضى طبيعة النفس ، من نصب وجوع ، أو عطش ، إذا لم يكن على وجه التسخط وكان صدقا ، لقول موسى : " لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا "
. ومنها : استحباب كون خادم الإنسان ، ذكيا فطنا كيسا ، ليتم له أمره الذي يريده .
ومنها : استحباب إطعام الإنسان خادمه من مأكله ، وأكلهما جميعا ، لأن ظاهر قوله : " آتنا غداءنا " إضافة إلى الجميع ، أنه أكل هو ، وهو جميعا .
ومنها : أن المعونة تنزل على العبد على حسب قيامه بالمأمور به ، وأن الموافق لأمر الله ، يعان ما لا يعان غيره لقوله : " لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا "
والإشارة إلى السفر المجاوز ، لمجمع البحرين . وأما الأول ، فلم يشتك منه التعب ، مع طوله ، لأنه هو السفر على الحقيقة . وأما الأخير ، فالظاهر أنه بعض يوم ، لأنهم فقدوا الحوت حتى أووا إلى الصخرة . فالظاهر أنهم باتوا عندها ، ثم ساروا من الغد ، حتى إذا جاء وقت الغداء قال موسى لفتاه : " آتنا غداءنا " ، فحينئذ تذكر أنه نسيه ، في الموضع الذي إليه منتهى قصده .
ومنها : أن ذلك العبد الذي لقياه ، ليس نبيا ، بل عبدا صالحا ، لأنه وصفه بالعبودية ، وذكر منة الله عليه بالرحمة والعلم ، ولم يذكر رسالته ولا نبوته ، ولو كان نبيا ، لذكر ذلك ، كما ذكره غيره . وأما قوله في آخر القصة : " وما فعلته عن أمري " فإنه لا يدل على أنه نبي ، وإنما يدل على الإلهام والتحديث ، كما يكون لغير الأنبياء ، كما قال تعالى : " وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه "
" وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا "
. ومنها : أن العلم الذي يعلمه الله لعباده نوعان : علم مكتسب يدركه العبد بجهده واجتهاده ، ونوع علم لدني ، يهبه الله لمن يمن عليه من عباده لقوله : " وعلمناه من لدنا علما "
. ومنها : التأدب مع المعلم ، وخطاب المتعلم إياه ألطف خطاب ، لقول موسى عليه السلام : " هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا " فأخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة ، وأنك هل تأذن لي في ذلك أم لا ، وإقراره بأنه يتعلم منه ، بخلاف ما عليه أهل الجفاء أو الكبر ، الذين لا يظهرون للمعلم افتقارهم إلى علمه بل يدعون أنه يتعاونون هم وإياه ، بل ربما ظن أحدهم أنه يعلم معلمه ، وهو جاهل جدا ، فالذل للمعلم ، وإظهار الحاجة إلى تعليمه ، من أنفع شيء للمتعلم .
ومنها : تواضع الفاضل للتعلم ممن دونه فإن موسى ـ بلا شك ـ أفضل من الخضر .
ومنها : تعلم العالم الفاضل ، للعلم الذي لم يتمهر فيه ، ممن مهر فيه ، وإن كان دونه في العلم بدرجات كثيرة . فإن موسى عليه السلام من أولي العزم من المرسلين ، الذين منحهم الله ، وأعطاهم من العلم ، ما لم يعط سواهم ، ولكن في هذا العلم الخاص ، كان عند الخضر ، ما ليس عنده ، فلهذا حرص على التعلم منه . فعلى هذا ، لا ينبغي للفقيه المحدث ، إذا كان قاصرا في علم النحو ، أو الصرف ، أو نحوهما من العلوم ، أن يتعلمه ممن مهر فيه ، وإن لم يكن محدثا ولا فقيها .
ومنها : إضافة العلم وغيره من الفضائل ، لله تعالى ، والإقرار بذلك ، وشكر الله عليها لقوله : " تعلمن مما علمت " أي : مما علمك الله تعالى .
ومنها : أن العلم النافع ، هو العلم المرشد إلى الخير ، فكل علم يكون فيه رشد وهداية لطريق الخير ، وتحذير عن طريق الشر ، أو وسيلة لذلك ، فإنه من العلم النافع ، وما سوى ذلك ، فإما أن يكون ضارا ، أو ليس فيه فائدة لقوله :
" أن تعلمن مما علمت رشدا "
. ومنها : أن من ليس له قوة الصبر على صحبة العالم والعلم ، وحسن الثبات على ذلك ، أنه ليس بأهل لتلقي العلم ، فمن لا صبر له ، لا يدرك العلم ، ومن استعمل الصبر ولازمه ، أدرك به كل أمر سعى فيه ، لقول الخضر ـ يعتذر عن موسى بذكر المانع لموسى في الأخذ عنه : إنه لا يصبر معه .
ومنها : أن السبب الكبير لحصول الصبر ، إحاطة الإنسان علما وخبرة ، بذلك الأمر ، الذي أمر بالصبر عليه ، وإلا فالذي لا يدريه ، أو لا يدري غايته ولا نتيجته ، ولا فائدته وثمرته ليس عنده سبب الصبر لقوله : " وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا " فجعل الموجب لعدم صبره ، عدم إحاطته خبرا بالأمر .
ومنها : الأمر بالتأني والتثبت ، وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء ، حتى يعرف ما يراد منه ، وما هو المقصود .
ومنها : تعليق الأمور المستقبلة التي من أفعال العباد بالمشيئة ، وأن لا يقول الإنسان للشيء : إني فاعل ذلك في المستقبل ، إلا أن يقول « إن شاء الله » .
ومنها : أن العزم على فعل الشيء ، ليس بمنزلة فعله ، فإن موسى قال :
" ستجدني إن شاء الله صابرا " فوطن نفسه على الصبر ولم يفعل .
ومنها : أن المعلم إذا رأى المصلحة في إيزاعه للمتعلم ، أن يترك الابتداء في السؤال عن بعض الأشياء ، حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها ، فإن المصلحة تتبع ، كما إذا كان فهمه قاصرا ، أو نهاه عن الدقيق في سؤال الأشياء التي غيرها أهم منها ، أو لا يدركها ذهنه ، أو يسأل سؤالا ، لا يتعلق بموضع البحث .
ومنها : جواز ركوب البحر ، في غير الحالة التي يخاف منها .
ومنها : أن الناسي غير مؤاخذ بنسيانه ، لا في حق الله ، ولا في حقوق العباد لقوله : " لا تؤاخذني بما نسيت "
ومنها : أنه ينبغي للإنسان أن يأخذ من أخلاق الناس ومعاملاتهم ، العفو منها ، وما سمحت به أنفسهم ، ولا ينبغي له أن يكلفهم ما لا يطيقون ، أو يشق عليهم ، ويرهقهم ، فإن هذا ، مدعاة إلى النفور منه والسآمة ، بل يأخذ المتيسر ، ليتيسر له الأمر .
ومنها : أن الأمور تجري أحكامها على ظاهرها ، وتعلق بها الأحكام الدنيوية ، في الأموال ، والدماء وغيرها ، فإن موسى عليه السلام ، أنكر على الخضر خرقه السفينة ، وقتل الغلام ، وأن هذه الأمور ظاهرها ، أنها من المنكر ، وموسى عليه السلام لا يسعه السكوت عنها ، في غير هذه الحال ، التي صحب عليها الخضر ، فاستعجل عليه السلام ، وبادر إلى الحكم في حالتها العامة ، ولم يلتفت إلى هذا العارض ، الذي يوجب عليه الصبر ، وعدم المبادرة إلى الإنكار .
ومنها : القاعدة الكبيرة الجليلة وهو أنه « يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الصغير » ويراعي أكبر المصلحتين ، بتفويت أدناهما ، فإن قتل الغلام شر ، ولكن بقاءه حتى يفتن أبويه عن دينهما ، أعظم شرا منه . وبقاء الغلام من دون قتل وعصمته ، وإن كان يظن أنه خير ، فالخير ببقاء دين أبويه ، وإيمانهما ، خير من ذلك ، فلذلك قتله الخضر ، وتحت هذه القاعدة من الفروع والفوائد ، ما لا يدخل تحت الحصر ، فتزاحم المصالح والمفاسد كلها ، داخل في هذا .
ومنها : القاعدة الكبيرة أيضا وهي أن « عمل الإنسان في مال غيره ، إذا كان على وجه المصلحة وإزالة المفسدة ، أنه يجوز ، ولو بلا إذن حتى ولو ترتب على عمله ، إتلاف بعض مال الغير ، كما خرق الخضر السفينة لتعيب ، فتسلم من غصب الملك الظالم . فعلى هذا لو وقع حرق ، أو غرق ، أو نحوهما ، في دار إنسان أو ماله ، وكان إتلاف بعض المال ، أو هدم بعض الدار ، فيه سلامة للباقي ، جاز للإنسان بل شرع له ذلك ، حفظا لمال الغير ، وكذلك لو أراد ظالم أخذ مال الغير ، ودفع إليه إنسان بعض المال ، افتداء للباقي ، جاز ولو من غير إذن .
ومنها : أن العمل يجوز في البحر ، كما يجوز في البر لقوله : " يعملون في البحر " ولم ينكر عليهم عملهم .
ومنها : أن المسكين قد يكون له مال لا يبلغ كفايته ، ولا يخرج بذلك عن اسم المسكنة ، لأن الله أخبر أن هؤلاء المساكين ، لهم سفينة .
ومنها : أن القتل من أكبر الذنوب لقوله في قتل الغلام :" لقد جئت شيئا نكرا "
ومنها : أن القتل قصاصا غير منكر لقوله : " بغير نفس "
ومنها : أن العبد الصالح يحفظه الله ، في نفسه ، وفي ذريته .
ومنها : أن خدمة الصالحين ، أو من يتعلق بهم ، أفضل من غيرها ، لأنه علل استخراج كنزهما ، وإقامة جدارهما ، بأن أباهما صالح .
ومنها : استعمال الأدب مع الله تعالى في الألفاظ ، فإن الخضر أضاف عيب السفينة إلى نفسه بقوله : " فأردت أن أعيبها " وأما الخير ، فأضافه إلى الله تعالى لقوله : " فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك "، كما قال إبراهيم عليه السلام : " وإذا مرضت فهو يشفين "، وقالت الجن : " وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا " مع أن الكل بقضاء الله وقدره .
ومنها : أنه ينبغي للصاحب أن لا يفارق صاحبه ، في حالة من الأحوال ، ويترك صحبته ، حتى يعتبه ، ويعذر منه ، كما فعل الخضر مع موسى .
منقول
ومنها : أن موافقة الصاحب لصاحبه ، في غير الأمور المحذورة ، مدعاة ، وسبب لبقاء الصحبة ، وتأكدها ، كما أن عدم الموافقة ، سبب لقطع المرافقة .