تابع لما قبله ((12 ))
أحدهما : أن المستعير لم تكن المنفعة حقاً له ، وإنما تبرع له المعير بها ن وأما أراضي المسلمين فمنفعتها حق للمسلمين ، وولي الأمر قاسم يقسم بينهم حقوقهم ليس متبرعاً لهم كالمعير ، والمقطع يستوفي المنفعة بحكم الاستحقاق كما يستوفي الموقوف عليه منافع الوقف وأولى ، وإذا جاز للموقوف عليه أن يؤجر الوقف و إن أمكن أن يموت فتنفسخ الإجارة بموته على أصح قولي العلماء : فلأن يجوز للمقطع أن يؤجر الإقطاع و إن انفسخت الإجارة بموته أو غير ذلك بطريق الأولى والأحرى .
الثاني : إن المعير لو أذن في الإجارة جازت الإجارة : مثل الإجارة في الإقطاع ، وولي الأمر يأذن للمقطعين في الإجارة ، وإنما أقطعهم لينتفعوا بها : إما بالمزارعة وإما بالإجارة ، ومن حرم الانتفاع بها بالمؤاجرة والمزارعة فقد أفسد على المسلمين دينهم ودنياهم ، فإن المساكن كالحوانيت والدور ونحو ذلك لا ينتفع بها المقطع إلا بالإجارة ، وأما المزارع والبساتين فينتفع بها بالإجارة و بالمزارعة والمساقاة في الأمر العام ، والمرابعة نوع من المزارعة ، ولا تخرج عن ذلك إلا إذا استكرى بإجارة مقدرة من يعمل له فيها ، وهذا لا يكاد يفعله إلا قليل من الناس ، لا إنه قد يخسر ماله ولا يحصل له شيء بخلاف المشاركة فإنهما يشتركان في المغنم والمغرم ، فهو أقرب إلى العدل ، فلهذا تختاره الفطر السليمة ، وهذه المسائل لبسطها موضع آخر .
والمقصود هنا: أن ولي الأمر إن أجبر أهل الصناعات على ما تحتاج إليه الناس من صناعاتهم كالفلاحة والحياكة والبناية فإنه يقدر أجرة المثل ، فلا يمكن المستعمل من نقص أجرة الصانع عن ذلك ، ولا يمكن الصانع من المطالبة بأكثر من ذلك حيث تعين عليه العمل ، وهذا من التسعير الواجب ، وكذلك إذا احتاج الناس إلى من يصنع لهم آلات الجهاد من سلاح و جسر للحرب وغير ذلك فيستعمل بأجرة المثل ، لا يمكن المستعملون من ظلمهم و لا العمال من مطالبتهم بزيادة على حقهم مع الحاجة إليهم . فهذا تسعير في الأعمال .
و أما في الأموال فإذا احتاج الناس إلى سلاح للجهاد فعلى أهل السلاح أن يبيعوه بعض المثل ، ولا يمكنون من أن يحبسوا السلاح حتى يتسلط العدو أو يبذل لهم من الأموال ما يختارون ، والإمام لو عين أهل الجهاد للجهاد تعين عليهم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( و إذا استنفرتم فانفروا )) . أخرجاه في الصحيحين وفي الصحيح أيضاً عنه أنه قال: (( على المرء المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره ، ومنشطه ومكرهن و أثرة عليه )). فإذا وجب عليه أن يجاهد بنفسه وماله : فكيف لا يجب عليه أن يبيع ما يحتاج عليه الجهاد بعوض المثل؟ والعاجز عن الجهاد بنفسه يجب عليه الجهاد بماله في اصح قولي العلماء ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، فإن الله أمر بالجهاد بالمال والنفس في غير موضع من القرآن ، وقد قال الله تعالى : {فاتقوا الله ما استطعتم}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )) . أخرجاه في الصحيحين ، فمن عجز عن الجهاد بالبدن لم يسقط عنه الجهاد بالمال ، كما أن من عجز عن الجهاد بالمال لم يسقط عنه الجهاد بالبدن ، ومن أوجب على المعضوب أن يخرج من ماله ما يحج به الغير عنه و أوجب الحج على المستطيع بماله فقوله ظاهر التناقض .
ومن ذلك إذا كان الناس محتاجين إلى من يطحن لهم ومن يخبز لهم لعجزهم عن الطحن والخبز في البيوت ، كما كان أهل المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يكن عندهم من يطحن ويخبز بكراء ولا من يبيع طحيناً ، ولا خبزاً ، بل كانوا يشترون الحب ويطحنونه ويخبزونه في بيوتهم ، فلم يكونوا يحتاجون إلى التسعير ، وكان من قدم بالحب باعه فيشتريه الناس من الجالبين ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( الجالب مرزوق ، والمحتكر ملعون )). وقال : (( لا يحتكر إلا خاطئ )) .رواه مسلم في صحيحه . ومايروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: (( أنه نهى عن قفيز الطحان )). فحديث ضعيف ، بل باطل ، فإن المدينة لم يكن فيها طحان ولا خباز ، لعدم حاجتهم إلى ذلك ، كما أن المسلمين لما فتحوا البلاد كان الفلاحون كلهم كفاراً لأن المسلمين كانوا مشتغلين بالجهاد .
ولهذا لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر أعطاها لليهود يعملونها فلاحة ، لعجز الصحابة عن فلاحتها ، لأن ذلك يحتاج إلى سكناها ، وكان الذين فتحوها أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة ، وكانوا نحو ألف وأربعمائة ، وانضم إليهم أهل سفينة جعفر ، فهؤلاء هم الذين قسم النبي صلى الله عليه وسلم بينهم أرض خيبر ، فلو أقام طائفة من هؤلاء فيها لفلاحتها تعطلت مصالح الدين التي لا يقوم بها غيرهم ، فلما كان في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفتحت البلاد وكثر المسلمون استغنوا عن اليهود فإجلوهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال : (( نقركم فيها ماشئنا ، وفي رواية ما أقركم الله )). وأمر بإجلائهم منه عند موته صلى الله عليه وسلم فقال : (( اخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب )). ولهذا ذهب طائفة من العلماء كمحمد بن جرير الطبري – إلى أن الكفار لا يقرون في بلاد المسلمين بالجزية إلا إذا كان المسلمون محتاجين إليهم ، فإذا استغنوا عنهم أجلوهم كأهل خيبر ، وفي هذه المسألة نزاع ليس هذا موضعه .
والمقصود هنا أن الناس إذا احتاجوا إلى الطحانين والخبازين فهذا على وجهين : أحدهما : أن يحتاجون إلى صناعتهم ، كالذين يطحنون ويخبزون لأهل البيوت ، فهؤلاء يستحقون الأجرة ، وليس لهم عند الحاجة إليهم أن يطالبوا إلا بأجرة المثل كغيرهم من الصناع. الثاني : أن يحتاجوا إلى الصنعة والبيع ، فيحتاجوا إلى من يشتري الحنطة ويطحنها ، و إلى من يخبزها ويبيعها خبزاً ، لحاجة الناس إلى شراء الخبز من الأسواق ، فهؤلاء لو مكنوا أن يشتروا حنطة الناس المجلوبة ويبيعوا الدقيق والخبز بما شاؤوا مع حاجة الناس إلى تلك الحنطة لكان ذلك ضرراً عظيماً ، فإن هؤلاء تجار تجب عليهم زكاة التجارة عند الأئمة الأربعة وجمهور علماء المسلمين ، كما يجب على كل من اشترى شيئاً يقصد أن يبيعه بربح ، سواء عمل فيه عملاً أو لم يعمل ، وسواء اشترى طعاماً أو ثياباً أو حيواناً ، وسواء كان مسافراً ينقل ذلك من بلد إلى بلد ، أو كان متربصاً به يحبسه إلى وقت النفاق ، أو كان مديراً يبيع دائماً ويشتري كأهل الحوانيت ، فهؤلاء كلهم تجب عليهم زكاة التجار ، و إذا وجب عليهم أن يصنعوا الدقيق والخبز لحاجة الناس إلى ذلك ألزموا كما تقدم ، أو دخلوا طوعاً فيما يحتاج إليه الناس من غير إلزام لواحد منهم بعينه ، فعلى التقديرين يسعر عليهم الدقيق والحنطة ، فلا يبيعوا الحنطة و الدقيق إلا بثمن المثل بحيث يربحون الربح بالمعروف من غير إضرار بهم ولا بالناس.
وقد تنازع العلماء في التسعير في مسألتين : إحداهما : إذا كان للناس سعر غال فأراد بعضهم أن يبيع بأغلى من ذلك فإنه يمنع منه في السوق في مذهب مالك ، وهل يمنع النقصان ؟ على قولين لهم . وأما الشافعي وأصحاب أحمد : كأبي حفص العكبري ، والقاضي أبي يعلى ، والشريف أبي جعفر ، وأبي الخطاب ، وابن عقيل وغيرهم : فمنعوا من ذلك. و احتج مالك بما رواه في موطئه عن يونس بن سيف ، عن سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيباً له بالسوق ، فقال له عمر : إما أن تزيد في السعر وإما أن ترفع من سوقنا.
وأجاب الشافعي وموافقوه بما رواه فقال : حدثنا الدراوردي ، عن داود بن صالح التمار عن القاسم بن محمد عن عمر: أنه مر بحاطب بسوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب ، فسأله عن سعرهما ؟ فسعر له مدين لكل درهم ، فقال له عمر : قد حدِّثت بعير مقبلة من الطائف بحمل زبيباً وهم يعتبرون سعرك ، فأما أن ترفع السعر وإما أن تدخل زبيبك البيت فتبيعه كيف شئت ، فلما رجع عمر حاسب نفسه ، ثم أتى حاطباً في داره فقال: إن الذي قلت لك ليس بمعرفة مني ولا قضاء إنما هو شيء أردت به