الخشوع
منزلته ، موجباته ، آثاره
الخشوع : ضراعة القلب ، وطمأنينته وسكونه لله (تعالى) ، وانكساره بين
يديه ، ذلا ، وافتقارا ، وإيمانا به وبلقائه .
ومحل الخشوع : القلب ، وثمرته : تظهر على الجوارح ، ولذا قيل : إذا
ضرع القلب ، خشعت الجوارح ، وذلك لأن القلب ملك البدن ، وأمير الأعضاء ،
تصلح بصلاحه ، وتفسد بفساده ، فيمثل الخشوع إذن : الانقياد التام لأوامر الله
ونواهيه ، والعكوف على العمل من غير توان ولا فتور .
منزلة الخشوع من الإيمان :
الخشوع من الإيمان ؛ الذي هو في القلب ، وإنما يزيد الإيمان بحياة القلب ،
وذلك بالاشتغال بالعلم النافع والعمل الصالح ، كما أنه ينقص بمرض القلب ،
ويذهب بموته ، وذلك بالانصراف إلى الشبهات والشهوات ، فعلى المسلم أن يتعاهد
قلبه في جميع أحواله ليدفع عنه القسوة ؛ فإنها إذا استبدت به منعته الخشوع .
والله (عز وجل) يريد من عباده الترقي في سلم الإيمان ، ودرجات اليقين ،
ولذا : عاتب المؤمنين الذين لم يبلغوا قمة الخشوع ؛ حيث تدل حركتهم البطيئة على
ضعف لا يرضاه الله للعصبة المؤمنة حاملة المنهج الرباني ، لتبليغه للناس كافة ؛
عاتبهم فقال : [ ألم يان للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق
ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم
فاسقون ] [الحديد : 16] ، وفي الآية تلويح بما كان عليه أهل الكتاب من قسوة
أورثتهم الفسق في الأعمال ، ومن هنا كان التحذير الشديد من مآلهم ، حيث طال
عليهم الزمان ، واستمرت بهم الغفلة ، فاضمحل إيمانهم ، وذهب إيقانهم .
ثم قطع الله دابر اليأس ، وبعث الأمل ؛ فإن القلب القاسي يمكن عودته إلى الله
وإقباله عليه ؛ كالأرض يحييها الله بعد موتها ، قال (تعالى) : [ اعلموا أن الله
يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون ] [ الحديد : 17] ، خاطبهم
بكل ذلك ؛ ليزدادوا قربا منه (تعالى) ، فتوجل قلوبهم لذكره ، وتسكن قلوبهم لأمره ؛
ليكونوا من المخبتين ، فيتأهلوا لدار كرامته ، ويصيروا من أهل النفوس المطمئنة
لتنادى بالنداء الكريم العظيم : [ يا أيتها النفس المطمئنة (27) ارجعي إلى ربك
راضية مرضية (28) فادخلي في عبادي (29) وادخلي جنتي ] [الفجر : 27 -30] .
هذا هو خشوع الإيمان الذي يريده الله من عباده ، ليس منه الزعيق والصياح ، ولا الرقص والتصفيق ، ولا ضرب الخدود وشق الجيوب . وشتان بين خشوع
الإيمان وخشوع النفاق الذي يبدو على الجوارح تصنعا وتكلفا ومراءاة ، مع كون
القلب غير خاشع ، والنفس منطوية على إرادة الشهوات [1] .
وقد رأينا ثمرة هذا الخشوع الإيماني في حياة سيد الخاشعين ، الذي كان له في
الانكسار لله (تعالى) والذل بين يديه أكمل الأحوال ، فقد رؤي يصلي ، وفي صدره
أزيز كأزيز الرحى أي الطاحون من البكاء [2] ، وربما بكى فبل حجره ، ولحيته ،
والأرض تحته [3] ، وكان كثير الذكر والاستغفار والتوبة ، وكذا صاحبه الصديق
(رضي الله عنه) كان وجلا رقيقا ، إذا صلى أو قرأ القرآن بكى [4] ، وأما الفاروق
فيكفيك أنه مرض مرة لسماع القرآن وعاده الناس في مرضه لا يدرون ما به !
وقد أصاب سهم أحد الصحابة وهو في صلاته فأزاله ورماه وأتم صلاته .
ومن السلف من كان يقوم في الصلاة كأنه عمود تقع الطيور على رأسه من
شدة سكونه وإطالته ، ولهم في ذلك أحوال يطول منها عجبنا ؛ لأننا لا نرى ذلك في
واقع حياتنا [5] .
مكانة الخشوع وفضائله :
والخشوع علم نافع ؛ لأن العلم النافع ما أوجب خشية القلوب ، لذا : كان
يستعيذ من علم لا ينفع ، وقلب لا يخشع ، ونفس لا تشبع ، ودعوة لا تسمع ، فإن
القلب الذي لا يخشع : علمه لا ينفع ، ودعاؤه لا يسمع .
وهذا العلم النافع هو أول ما يرفع من الأمة ، كما في الحديث : (أول ما يرفع
من الناس الخشوع) [6] ، وبذهاب الخشوع تكون العبادة بغير روح ، وهذا أمر
يورث الخوف على القلب ، وتفقده دائما .
وفضائل الخشوع كثيرة : فهو يقرب القلب من الله ، فيمتلئ نورا ، فينتفع
صاحبه بآيات الله الشرعية ، والكونية ، ويكون له في كل نظرة عبرة ، وعبرة .
ويقي صاحبه من غوائل العجب والغرور والإدلال والرياء . وبه تستنزل رحمة الله
(تعالى) ، وأعظمها : حصول البشرى [ وبشر المخبتين ] [الحج : 34] ، وبه ... ينال الأجر العظيم ، فالخشوع طريق الفلاح الموصل إلى الجنة : [ قد أفلح المؤمنون (1) الذين هم في صلاتهم خاشعون ] [المؤمنون : 1 ، 2] ، ثم قال : [ أولئك هم الوارثون (10) الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ] [المؤمنون : 10 ، 11] .
مواطن الخشوع [7] :
وهي كثيرة ، ولكنه ارتبط بالصلاة أكثر من غيرها ، فلا يذكر إلا وينصرف
الذهن إليها ؛ لأن أعمالها تتضمن الذكر ، والدعاء ، وقراءة القرآن ، والركوع ،
والسجود ، وهي مواطن الخضوع والبكاء والخشية والتخشع .
وقد أمر الله (تعالى) بإقامة الصلاة ، وإقامتها تعني : أداءها كما أمر الله
ورسوله ، بتوجه القلب والجسد كلية إلى الله (تعالى) ، وبالخشوع فيها يجمع
المصلي بين طهارة الظاهر والباطن ، ثم إن المغفرة وتكفير السيئات ورفعة
الدرجات مرتبة على قدر الإحسان في أداء الصلاة ، وقد بلغ من منزلة الخشوع فيها
أن الله (سبحانه) جعل الصلاة الخاشعة أول صفات المؤمنين المفلحين الوارثين
للفردوس ، حتى اختلف الفقهاء في الاعتداد بالصلاة التي لا خشوع فيها ! ! ، وإن
كان يسقط أداؤها ، لكن الأجر بعيد .
والصلاة مرآة لإيمان المصلي ، فخشوعها الباطن مرآة القلب ، وخشوعها
الظاهر مرآة الجوارح ، وفي بيان صلة الخشوع بالإيمان قال (تعالى) : [ قد أفلح
المؤمنون (1) الذين هم في صلاتهم خاشعون ] [المؤمنون : 1 ، 2] ، وكما أن كل
زيادة في الإيمان تزيد في الخشوع ، فإن الصلاة من أعظم أعمال الإيمان ،
وخشوعها يزيد الإيمان .
إن تفاعل المسلم مع صلاته لا ينبغي أن ينفصل عن تفاعله مع بقية إسلامه :
علما ، وعبادة ، ودعوة ، فالذي يعيش الإسلام ، ويعيش للإسلام ، ويحاول أن
يستأنف حياة إسلامية في شخصه ومجتمعه ، تنفتح له آفاق من الخشوع عند الصلاة
والذكر والتلاوة والتفكر ، لا تنفتح لغيره ، فيجد لعبادته هذه حلاوة .
موجبات الخشوع (الطرق الموصلة إليه) :
إن مما يحصل به المسلم الخشوع :
1- تلقي أوامر الله (تعالى) بالقبول والامتثال ، وعدم معارضتها بشهوة أو
رأي .
2- الحرص على الإخلاص ، وإخفاء الأعمال عن الخلق قدر المستطاع ،
ومطالعة عيوب النفس ونقائص الأعمال ومفسداتها من الكبر والعجب والرياء
وضعف الصدق ، والتقصير في إكمال العمل وإتمامه .
3- الإشفاق من رد الأعمال وعدم قبولها .
4- مشاهدة فضل الله وإحسانه ، والحياء منه ؛ لاطلاعه على تفاصيل ما في
القلوب ، وتذكر الموقف والمقام بين يديه ، والخوف منه ، وإظهار الضعف
والافتقار إليه والتعلق به دون غيره .
5- طلب هدايته وتوفيقه وتسديده .
6- ومن أعظم الطرق : معرفة الله (جل جلاله) بأسمائه الحسنى وصفاته
العلا .. والعلم النافع ، وهو : العلم بآيات الله الكونية والشرعية ، الذي يربط القلب
بالله .
وكذلك الإكثار من ذكر الموت ، والجنة والنار ، والإكثار من ذكر الله تضرعا
وخيفة ، ودعائه تضرعا وخفية ، فإن ذلك أعظم إيمانا وأبلغ في الأدب ، والتعظيم ،
والتضرع ، والخشوع ، والإخلاص ، وجمعية القلب على الله (تعالى) .
ويمكن تحصيل ذلك كله بالإقبال على كتاب الله الكريم ، مع تعاهد التلاوة ،
وإدامة النظر ، وطول التأمل وكثرة التدبر ، الذي يورث الصلة بالله (تعالى) ،
والمسارعة في الطاعات ، واستباق الخيرات ، وهو الأمر الذي لأجله أنزل الله
القرآن الكريم .
وأما الصلاة : فإن تفصيل الطرق الموصلة إلى الخشوع فيها يطول ، ولكن
هذه بعض مفاتيحها :
1- العلم بمنزلة الصلاة ، والإلمام ببعض أسرارها ، وهو الأمر الذي لا يهتم
به إلا قليل من الناس .
2- المحافظة على آدابها الظاهرة حال التطهر والاستعداد لها والخروج إليها ،
والاعتدال والاطمئنان في كل أركان الصلاة وأجزائها ، مما يحقق خشوع الظاهر ،
فيساعد على خشوع الباطن .
3- التحقق بخشوع القلب ، وتجريده من الرياء ، فإنه لا خشوع بلا إخلاص ، ولا بد منهما جميعا ، فإن ذهاب أحدهما يتعلق به ذهاب الآخر ، قال (تعالى) : ... [ فويل للمصلين (4) الذين هم عن صلاتهم ساهون (5) الذين هم يراءون ] [الماعون : 4 - 6] .
أما الوساوس والخطرات فأفضل شيء لها : التخلص من الشواغل قبل
الدخول في الصلاة ، والتحصن ضدها بعد الدخول في الصلاة ، وذلك أمر يحتاج
إلى طول المجاهدة وإدامة الصبر حتى يبدأ القلب في الخشوع مرة تليها ثانية ، حتى
يصير الخشوع صفة من صفات القلب اللازمة له ، والله المستعان .
4- تدبر معاني الأقوال ، وأسرار الأفعال في الصلاة ، وهي مجال خصب
وبحر لا ساحل له .
5- النظر في سير الخاشعين أحياء وأمواتا .
6- قيام الليل ، وهو مدرسة تعلم الخشوع والإخلاص .
علامات الخشوع :
وهي أمارات يتعرف بها الإنسان على حال قلبه ، ومنها :
حب الصلاة والاشتياق إليها ، والمسارعة إليها ، وكونها سهلة خفيفة تشرح
الصدر ويطمئن لها القلب .
حضور القلب عند تلاوة القرآن ، والذكر والدعاء ، وسماع المواعظ
والخطب ، وتدبر كل ذلك بيسر وسهولة .
دوام الشكر عند حصول النعم واندفاع النقم ، وبقاء القلب على وجل من كون
ذلك استدراجا .
دوام الصبر عند وقوع البلاء وتلقيه بالرضى والاستسلام والطمأنينة .
كثرة التدبر والتأمل والتفكر في مخلوقات الله ، وفي حال النفس ، وأحوال
العصاة ، والشفقة عليهم ، وسؤال الله العافية .
ومما ذكر الله من صفات الخاشعين : الخوف من الله بمجرد ذكر اسمه ،
والبكاء من خشيته ، وعند سماع كلامه ، والصبر ، وإقامة الصلاة ، والإنفاق ،
وتعظيم شعائر الله ، واليقين بملاقاة الله (تعالى) ، والمسارعة في الخيرات ، ودعاء
الله رغبا ورهبا .
آثار الخشوع :
يضفي الخشوع على الأفراد والأمم آثارا كثيرة ، منها :
1- أنه يبعث الحياة في العمل ، فيؤتي ثمرته المرجوة وغايته المقصودة .
2- أنه يجعل العبادة محببة للنفس ، خفيفة غير ثقيلة .
3- المسارعة إلى الإذعان للحق والدعوة إليه ، وبذل غاية الوسع في التعليم
والدعوة والتربية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
4- توحيد المشاعر والاتجاهات والمقاصد نحو الله (تعالى) لاشريك له ،
فيتوجه العمل والنشاط والعبادة نحو غاية واحدة ، فيحصل من ذلك :
إحياء الأمة وقوتها وانتصارها ، بصلاة الخاشعين ودعائهم وإخلاصهم ، ولا
يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها .
وقد لمسنا آثار الخشوع في حياة سلف هذه الأمة الذين قاموا بأمر الله خير قيام ، وحملوا لواء العلم والعبادة والدعوة ، وما كان ليحصل ذلك لولا ما تحمله قلوبهم
من تعظيم الله ومحبته وخشيته .
وإذا لم يكن الخشوع صفة الدعاة وحالهم ، فإن الخطب جلل ، والمصيبة
عظيمة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
نسألك يا مقلب القلوب أن تلزم قلوبنا خشيتك ، وأن تعمرها بتعظيمك ،
وتملأها خوفك