مقاربات بين الشعبي والفصيح
فيض من العواطف والصور
حين يسري الحب في الدماء كما يجري الماء في عروق الشجر.. تزهر العواطف وتثمر بشكل سريع عجيب، فما تأخذه الزهور لكي تتفتح عن أكمامها الملونة وأفواهها المعطرة وما تستغرقه الشجرة لتأتي بالثمرة لا يتم إلاّ في شهور وسنين أما زهور الحب فإنها تتفتح في لحظة وربما من لمحة وثمار العواطف تنضج على نار الحب في لقاء دقيقة وتخرج لنا القصيدة..
تخرج مندفعة ..حارة.. فياضة بالصور والعواطف تتدفق كشلال من جمال فيها الماء الزلال الذي ينبع من الوجدان.. ويروي الوجدان.. ويطير بجناح الخيال فيأخذ معه محبي الشعر إلى جزائر من جمال لم تطأها قدم أحد ويرينا جمال امرأة لم نرها بعد..
والعرب يعشقون الجمال ويحبون الشعر ويجمعون بين هذا وذاك.. فجمال البشر يطلق جمال الشعر.. وعذوبة الشعر تصور لنا ذلك الجمال النادر الذي رآه الشاعر صورة دائمة.. باقية يستمتع بها الناس وتتوارثها الأجيال..
وبما أن الشعر الجيد هو بحد ذاته فن جميل فإنه إذا صور امرأة جميلة يقدم لنا صورة مضاعفة للجمال من النادر ان نراها على أرض الواقع لكننا نراها ونعيشها بل ونطير معها على خيال الشاعر.. فيسري الجمال في مشاعرنا.. أماكننا.. تصورنا.. ومن حولنا.. في كل مكان..، وملء الآفاق..
وليس الجمال في وجه امرأة جميلة فقط ..الجمال مثبوت في كون الله الفسيح.. في مناظر الطبيعة الخلابة ..وفي شموخ الجبال.. وفي الصحراء النقية.. وفي اللوحات التشكيلية التي تصنعها كثبان الرمال.. في رقة البحيرة وجلال البحر.. في جريان الأنهار وتفتح الأزهار وهطول المطر.. في الأخلاق الكريمة والمواقف العظيمة في الوفاء والاخلاص والشهامة والمروءة والكرم.. في التضحية والعطاء..
الجمال لا يحده حد.. لا في السماء ولا في الأرض.. لافي الأشياء المحسوسة ولا في المعنوية.. طالما كانت النفس تعشق الجمال والذوق سليماً فإن الجمال ينهال من كل مكان.. وسوف تختار ما تيسر من قصائد تفيض بالعواطف والصور وتعانق الجمال بجمال آخر.. وترسم بعيون وقلوب الشعراء الموهوبين بعض ما رأوا من جمال.. وما أحسوا من شعور.. وما أشعل فيهم الخيال..
محلٌّ ما مشيت إليه إلاّ .. مشى فيّ ابتهاجي وارتياحي يانسيم الصباح سلم على باهي الخد.. نبّهه من منامه
صورة من الأندلس
دهش العرب بجمال الأندلس حين فتحوها وعاشوا فيها ورأوا من جمال الطبيعة وروعة المكان وحلاوة الأنسام ورقة الزهور وعذوبة المياه وجمال النساء ما لم يعهدوه في الصحراء.. فقالوا في ذلك أشعاراً كثيرة.
منها قول أبي حفص بن برد وقد هاجر من البادية إلى الأندلس فأحس بالبهجة والأنس ولأن شعره رقّ مع رقة الأجواء في الأندلس..
قال يصف وسط الرصافة في الأندلس حيث الطيور الصداحة والمناظر الخلابة والأنسام الرقيقة والزهور الفواحة والوجوه الجذابة.
سقى جوف الرصافة مستهل
تؤلف شمله أيدي الرياح
محلٌّ ما مشيت اليه إلاّ
مشى في ابتهاجي وارتياحي
كأن ترنم الاطيار فيه
أغانٍ فوق أوتار فصاح
كأن تثني الأشجار فيه
عذارى قد شربن سلاف راح
كأن رياضه أبراد وشي
تعطّف فوق اعطاف ملاح
ونلاحظ ان العربي لا يزال يحمل بيئته الصحراوية معه حتى وهو في الأندلس، ويحتفظ بعواطفه التي تحب المطر كل الحب وترى فيه الجمال والخصب لهذا يدعو الشاعر لرياض الأندلس بمستهل المطر.. مع أنه لا ينقصها.. بل ربما زاد عن حاجتها ولكنها حاجة في نفس العربي.
النسيم والحبيب
وفي شعر شعبي جميل شدا به أكثر من مطرب أشهرهم وأجملهم صوتاً فنان العرب محمد عبده يقول الشاعر اليمني يحيى عمر اليافعي:
يا نسيم الصباح سلم على ماهي الخد..
نبهه من منامه!
قله اني على وعده بحبه مقيّد
حتى يوم القيامه!
وانت يامن ترى في جمالك مزيّد
شي علينا ملامه
غير في نظرة الخد الاسيل المورّد
من روابي تهامه
وانت يا عاذلي مالي ولك ليش تحسد
خل عنك النمامه
وراقب الله في هجري وبي لا تنكّد
حد يحب العدامه
ريقه الشهد واحلى من الشهد وابرد
والحلا في كلامه
ومن رأى غرته هلل وكبر وشهّد
بدر ليلة تمامه
والشيء بالشيء يذكر والجميل إلى الجميل يميل لذلك حين هبت الصبا برائحة النفل والخزامى تذكر الشاعر فهيد بن هباس احبابه واستيقظت أشواقه.. وحن حنينه.. ومال خياله إلى الزمن الجميل الذي ارتبط في وجدانه بهبوب الصبا وريح الخزامى والنفل ورقة الجو وحلاوة المكان:
يوم الصبا هبت بريح الخزامى
الشوق في قلبي تعدا المقاييس
قلت: آه ياما يا صبا نجد ياما
فالقلب جددت الجروح المراميس
ليتك من الخلان جبتي سلاما
يرتاح قلب غارق بالهواجيس
لو قلت (داله) ما يفيد الكلاما
الدمع يكشف خافيات الاحاسيس
الدمع يرسم في عيوني الهياما
مع ماشقاهم يا هبوب النسانيس
حنان الوادي
وما أجمل ان يأوي المسافر المجهد، في عز الظهيرة وقت الصيف، إلى واد كثير الشجر غزير الثمر طيب النسيم جميل الثرى يبهج القلب ويمتع العين..
هذا ما وصفته الشاعرة الأندلسية حمدونة بنت زياد حين نزلت مع قومها وادي آش في الاندلس حيث توشح الوادي بالخضرة اليافعة والأشجار الباسقة، والأنسام الحانية والتربة البكر النقية التي كان حصاها الدر فلا تكاد الحسناء تمشي فيه وترى بعض حصاه الذي كأنه الدر حتى تتفقد عقدها تظن انه سقط على الأرض وما سقط ولكنها طبيعة الوادي الخلابة:
وقانا لفحة الرمضاء واد
سقاه مضاعف الغيث العميم
حللنا دوحه فحنا علينا
حنو المرضعات على الفطيم
يصد الشمس أنّى واجهتنا
فيحجبها ويأذن للنسيم
تروع حصاه حالية العذارى
فتلمس جانب العقد النظيم
عبدالله الجعيثن / جريدة الرياض