الحلقه الثالثه
ثالث الخلفاء الراشدين
عثمان بن عفان
لما طعن عمر رضي الله عنه دعا عبد الرحمن بن عوف، فقال: إني أريد أن أعهد إليك. فقال: يا أمير المؤمنين، نعم، إن أشرت عليّ قبلت منك. قال: وما تريد أنشدك الله، أتشير علي بذلك. قال: اللهم لا. قال: والله لا أدخل فيه أبدا. قال: فهب لي صمتا، حتى أعهد إلى النفر الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عنهم راض، ادع لي عليا وعثمان والزبير وسعدا. قال: وانتظروا أخاكم طلحة ثلاثا، فإن جاء، وإلا فاقضوا أمركم. ثم دعا أبا طلحة الأنصاري، فقال: قم على بابهم، فلا تدع أحدا يدخل إليهم. وأمر عبد الله أن يشارك في مجلس الشورى الذي كَوّنه، فيكون مع الأكثرين إن اختلفوا، ويكون مع الحزب الذي فيه عبد الرحمن بن عوف إن تساوت أعداد الفريقين.
ويروي مسور فيقول: فقال عبد الرحمن: أيكم يطيب نفسا أن يخرج نفسه من هذا الأمر، ويوليه غيره؟ قال: فأمسكوا عنه. قال: فإني أخرج نفسي وابن عمي. فقلده القوم الأمر، وأحلفهم عند المنبر فحلفوا ليبايعن من بايع... فأقام ثلاثا في داره التي عند المسجد التي يقال لها اليوم رحبة القضاء، وبذلك سميت رحبة القضاء، فأقام ثلاثا يصلي بالناس صهيب. قال: وبعث عبد الرحمن إلى علي، فقال له: إن لم أبايعك فأشر علي. فقال: عثمان. ثم بعث إلى عثمان، فقال: إن لم أبايعك فمن تشير علي؟ قال: علي. ثم قال لهما: انصرفا. فدعا الزبير، فقال: إن لم أبايعك فمن تشير علي؟ قال: عثمان. ثم دعا سعدا، فقال: من تشير علي؟ فأما أنا وأنت فلا نريدها، فمن تشير علي؟ قال: عثمان. فلما كانت الليلة الثالثة، قال: يا مسور. قلت: لبيك. قال: إنك لنائم، والله ما اكتحلت بغماض منذ ثلاث (أَي ما نمت)، اذهب فادع لي عليًّا وعثمان. قال: قلت: يا خال بأيهما أبدأ؟ قال: بأيهما شئت. قال: فخرجت فأتيت عليا وكان هواي فيه، فقلت: أجب خالي. فقال: بعثك معي إلى غيري؟ قلت: نعم. قال: إلى من؟ قلت: إلى عثمان. قال: فأينا أمرك أن تبدأ به؟ قلت: قد سألته، فقال: بأيهما شئت. فبدأت بك وكان هواي فيك. قال: فخرج معي حتى أتينا المقاعد، فجلس عليها علي، ودخلت على عثمان، فوجدته يوتر مع الفجر، فقلت: أجب خالي. فقال: بعثك معي إلى غيري؟ قلت: نعم، إلى علي. قال: بأينا أمرك أن تبدأ؟ قلت: سألته، فقال: بأيهما شئت. وهذا علي على المقاعد. فخرج معي حتى دخلنا جميعا على خالي، وهو في القبلة قائم يصلي، فانصرف لما رآنا، ثم التفت إلى علي وعثمان، فقال: إني قد سألت عنكما، وعن غيركما، فلم أجد الناس يعدلون بكما، هل أنت يا علي مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟ فقال: اللهم لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي. فالتفت إلى عثمان، فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم نعم. فأشار بيده إلى كتفيه، وقال: إذا شئتما. فنهضنا حتى دخلنا المسجد، وصاح صائح: الصلاة جامعة. قال عثمان: فتأخرت والله حياء، لما رأيت من إسراعه إلى علي، فكنت في آخر المسجد. قال: وخرج عبد الرحمن بن عوف، وعليه عمامته التي عممه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم متقلدا سيفه، حتى ركب المنبر، فوقف وقوفا طويلا، ثم دعا بما لم يسمعه الناس، ثم تكلم، فقال: أيها الناس إني قد سألتكم سرًّا وجهرًا عن إمامكم فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين، إما علي، وإما عثمان، فقم إلي يا علي، فقام إليه علي فوق تحت المنبر، فأخذ عبد الرحمن بيده، فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي. قال: فأرسل يده، ثم نادى: قم إليّ يا عثمان. فأخذ بيده وهو في موقف علي الذي كان فيه، فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم نعم. قال فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان، ثم قال: اللهم اسمع واشهد، اللهم إني قد جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان. قال: وازدحم الناس يبايعون عثمان حتى غشوه عند المنبر.
وتمت بيعة ذي النورين غرة المحرم يوم الجمعة بعد مقتل الفاروق رضي الله عنه بثلاث ليال، سنة أربع وعشرين من الهجرة.
وعندما بويع عثمان رضي الله عنه بالخلافة قام في الناس خطيبًا فأعلن عن منهجه السياسي مبينًا أنه سيتقيد بالكتاب والسنة وسيرة الشيخين، كما أشار في خطبته إلى أنه سيسوس الناس بالحكمة إلا فيما استوجبوه من الحدود، ثم حذرهم من الركون إلى الدنيا والافتنان بحطامها خوفًا من التنافس والتباغض والتحاسد بينهم مما يفضي بالأمة إلى الفرقة والخلاف، وكأن عثمان رضي الله عنه ينظر وراء الحجب ببصيرته النفاذة إلى ما سيحدث في هذه الأمة من الفتن بسبب الأهواء، فقال رضي الله عنه: "أما بعد، فإني كُلّفت وقد قبلت، ألا وإني متبع ولست بمبتدع، ألا وإن لكم عليَّ بعد كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ثلاثًا: اتباع كل من كان قبلي فيما اجتمعتم عليه وسننتم، وسن سنة أهل الخير فيما تسنوا عن ملأ، والكف عنكم إلا فيما استوجبتم العقوبة، وإن الدنيا خضرة وقد شهّيت إلى الناس، ومال إليها كثير منهم، فلا تركنوا إلى الدنيا، ولا تثقوا بها، فإنها ليست بثقة واعلموا أنها غير تاركة إلا من تركها"