نال أصحاب الآراء الرشيدة اهتماماً خاصاً فاحتلت قصائد شعراء الحكمة مكانة رفيعة
مقطع من حداء لشاعر يدرك مقاصد وأهداف بعض ولاة الدولة العثمانية في الحجاز من تقريب بعض رجال القبائل وزعمائها على حساب زعماء يرأسون تلك القبائل ويطالبون بحقوقها لدى الدولة ، ويحتجون معترضين على بعض القرارات التي تصدر ضد المصلحة العامة أو متجاهلة حقوق المواطنين ومسيئة لبعض الزعماء المنادين بتحقيق العدالة، متخذة من إثارة النزعات بين القيادات القبلية وتحريض بعضهم ضد الآخر فيقول الشاعر منبهاً زعماء القبائل ورجالها إلى مايحاك ضدهم من مكائد:
واربعي اللي في البنا يبني عليهم
واهل المباني في البنا متعلمين
الطش منهم والقنابل من ايديهم
واهل البنا في بيوتهم متريّحين
هذا الشاعر طرح هذه الاشارة فيما قبل مالايقل عن مائة وخمسين سنة أو يزيد ، ومع إدراكه لهذه السياسة فهو لم يكن غير شاعر أمي،ولكن ذلك لم يفقده فهم مايدور حوله ومايجري من سياسات في زمنه،الذي شهد بث الفرقة بين زعماء القبائل واحلال الموالي للدولة محل المتنبهين لواجباتهم تجاه بلادهم ومواطنيها ، حتى ولو أدى إلى انتزاع الزعامة من الأب او الأخ وابن العم وغيرهم، هذه السياسة"فرق تسد" كانت تنطلي على الزعماء وهم مدركون لابعادها ولكن الاغراء والخداع كان يصرفهم عن أبعاد هذه السياسة والطش أي القتل والخسارة من هؤلاء الزعماء المغرر بهم،أما المخادعون فإنه لا يلحقهم ضرر من جراء هذه الأحداث ، والشاعر ينبه قومه لخطورة ما يجري، ويحثهم على اجتماع الكلمة.
ترى هل تعلمنا من ذلك ومما مر بنا من تجارب خلال مسيرتنا العربية، والإسلامية؟ لن أزعج القارئ بتكرار مادأب على سماعه،ولكنني أقول: ما أحوجنا إلى تأمل هذا الحداء وخلعه على مايمر بالأمة العربية اليوم مما يتهدد حاضرها ومستقبلها.
***
وقف أحد زعماء القبائل أمام جثة أحد فرسان القبيلة الذي نكلت الشرطة العثمانية به في المدينة المنورة فقال:
أقفت مقابيل المعاني كلّها
واقفايها يفرح به القلب العليل
الفرق لاما صاب قوما ذّلها
فاللّم ياربعي ،ونادوا بالجميل
هذا الزعيم الشاعر يرثي فارساً من المحاربين الذين أبلوا بلاء حسنا في مواجهة اضطهاد أبناء البلاد، شيخ القبيلة يرثي مولىً من موالي القبيلة ولكن فروسية المولى فرضت احترامه، وهذا التقدير يعود إلى تقويم القبيلة للمعاني التي يتمتع بها أفرادها من فهم ومعرفة وفروسية ورجاحة رأي، ويشمل ذلك المولى وغيرهم ممن يكون انتماؤهم للقبيلة مكتسباً، وهكذا يشعر الشاعر بفقد كثير من المعاني الرفيعة برحيل المولى الفارس الذي يلقب (أبو تطنيشة) فيما قبل عام 1250ه تقريباً.
***
والأدب الشعبي يولي الآراء الرشيدة اهتماماً خاصاً فتحتل قصائد شعراء الحكمة مكانة رفيعة لديهم، بل تعد أشعار الرأي السديد من شعر الحكمة التي يسعى الاوائل لترسيخها في الناشئة، والرأي مصدره الفهم والتفكير قبل الاقبال على أمر ما، ومن ذلك:
من لا يقيس الهم وايام القسا
يتعب ولو انه مريح من الهجوس
لابد يرمي به على جمر الغضا
إلآ يقع في سد عوام الغطوس
وقياس الهم أو مقاساته لا يختلف معنى، فالانسان معرض للمعاناة وقسوة الحياة مثلما قد يحيا حياة رغدة، ومع ذلك لن يسلم من المعاناة واختلاف ظروف الحياة ، وهو غير قادر على دفع ذلك مالم يكن ذا راي وبصيرة تجلوان له مايعكر صفو حياته، وعوام الغطوس هو صاحب الرأي والبصيرة يجوس خلال المشاكل ويصدر الرأي السديد الذي يخلص من وقد جمر الغضا وهو المعاناة فعلى المرء أن لا يصرفه نعيم الحياة والاتكال على عطائها الذي لايدوم مالم يزود ببصيرة ترشده إلى درب الصواب، وحتى الرأي أو البصيرة فإن أحدهما لايكفي مالم يكن المرء قادراً على التقويم والتمحيص لترجيح الرأي، وكل ذلك من مكتسبات التجربة والسعي للفهم والمعرفة.
والدعوة للتفكير وترجيح الصواب من الخطأ من الأمور الهامة في حياة الانسان بدلا من الاندفاع والارتجال في اتخاذ القرار،وأهم ما يغذي التميز في المرء هوالتفكير واختيار الأصدقاء الذين فيهم من تغريه الغيرة للاساءة لاصدقائه فلا يصدق وده ، ولايخلص في مودته،فعلى المرء ألا يستسلم لأيسر الحلول والآراء مالم يقومها ويعرضها لمحك التمحيص:
من لا يدير الهم في ديوان راسه
ويصير عارف من صديقه من عداه
محري من اهل القيس يرمي في عماسه
في عاهل ما احد عرف عن حد ماه
والهم هو مايشغل الانسان ويدعوه للتفكير واتخاذ رأي، ومحري من الاحتمال والتوقع وأهل القيس هم أهل الرأي والعماس هو الضلال ، والعاهل هو الماء الغزير من بئر وغدير وسواهما مما لايعرف مدى غزره وعمقه، وأهل الرأي قد تأخذهم العزة والاعتداد بالنفس ليضلوا أنفسهم أو يضلوا سواهم.
ويظل القول عائماً مالم يصاحبه فعل يزكي القول وهنا يوضح الشاعر دلالات الاقوال والافعال فيقول:
عزي لمن هو صنعته قيل وقال
يضحي مع انداده قليل الفايدة
السب ما يردى مناعير الرجال
والمدح مايرفع رجالاً بايدة
والمقارنة بالأصدقاء والأنداد من الدوافع التي تحض الانسان للتميز والسعي للمفاضلة مع مجايلية، فما اكثر الأقوال التي تسمع ولا تحالفها الافعال.
هذه مؤشرات لقيم اجتماعية في زمن مضى ، مجتمع اعتمد على التجربة وموروثاته في أمور حياته. وإذا فكرنا في توجهات ذلك الجيل وقيمه وجدناها موافقة لما نسعى لترسيخه من قيم، وما نعتمده في مناهج حياتنا رغم تمتعنا بتجارب أكثر وموارد ثقافة أغزر، إضافة إلى ما أوتينا من علم ومعرفة ووسائل اختبار وتجريب، ورغم أن كثيراً من القيم تبلى أو تتجدد ولكن ماتعرضنا له من قيم هنا ظل وسيظل ماثلاً دون أن يعتريه البلى أو التجديد.
المصدر // عبد الرحيم الأحمدي ( جريدة الرياض )
الإهداءات
23-12-2010, 07:37 AM
أحاديث في الأدب الشعبي
العرض العادي
