في الصحراء عين على الرجم والأخرى على الطريق
وخطو الولد رجم على غير حله لو جاز لك مبناه برّق بساسه
مقطع يوضح الرمال والطبقة الصلبة أسفلها
ساكن الصحراء يهمه بالدرجة الأولى بعد ضبط الاتجاه، موارد الماء ليشرب ويتزود منه لبقية رحلته وسفره تلك الرحلة والسفر والتجوال الذي لا ينقطع حيث يتبع مواطن القطر والكلأ.
أيضا تهمه علامات الطريق فهو من خلال تردده يضع تلك العلامات بنفسه في أماكنها، ويحتفظ بها في ذاكرته ويضيفها إلى خبرته، وأي خطأ في هذا أو ذاك قد يكلفه حياته.
فالرجم كعلامة، والحسي كمورد ماء وكذلك ما يماثله من بئر أو دحل أو عد هي كل مكونات أمن البقاء وسلامة التنقل عبر الصحراء، وهي بمثابة محطات ولوحات إرشادية، وهي خارطة الطريق التي رسمها الجميع دون اتفاق أو تخطيط مسبق، لكن الهم المشترك هو المنسق بين السكان.
فالذي يبني الرجم كعلامة ويجعلها فوق المرتفع، إنما ينشئ مجموعة من الصخور متراصة لكنها تنطق لمن يراها بحسب العرف السائد، فهي تعني الطريق من هنا، أو الماء حول المكان، أو انتهى الطريق وتغير الاتجاه لذا يتم ترقب الرجم الآخر لكي يتم تعديل الاتجاه، كما يهتدى إلى الماء إما في الوادي على شكل حسي أو في جبل على شكل ينبوع في سفح جبل يتسرب منه الماء أو على شكل دحل وتجويف أو ما يسمى بالقلتة، اختزنت الماء أيضا، أو غار يستظل بظله أو طريق الصعود عبر الجبل، إذ لا يمكن الصعود عبر الجبال إلا من أماكن محددة جدا ونادرة أيضا فيوضع الرجم عليها تحديداً.
ولا يمكن أن يوجد رجم في الصحراء دون هدف، و يقولون في الأمثال الشعبية فلان [ رجم على غير حسي ] ويعنون بذلك أن هذا الشخص صورة لا فائدة منه، نظرة على غير أفعال، وكأنهم بذلك يعطون دروساً في التربية نحو الإيجابية ليكون الإنسان فيه نفع للآخرين، وأن لوجوده معنى من خلال الأفعال لا من خلال الصورة.
و بهذا يكون الرجم وهو مجموعة الحجارة التي توضع بطول قامة الرجل أو أكثر، علامة على مرتفع من الأرض كالهضاب والتلال وما دونه، ويقصد به الدلالة على شيء ينتفع به.
يقول الشاعر: عبد الله بن سبيل :
خطو الولد توه على شبة له
جميع هومات المراجل براسه
يقوم بالمعروف دقة وجله
والله مهيٍ له على قو باسه
وخطو الولد رجم على غير حله
لو جاز لك مبناه برّق بساسه
والشاهد تأكيد المثل الشعبي القائل ( رجم على غير حسي )
و يقول الشاعر أيضا :
عديت مرقاب براسه رجومي
مرقاب طلاب الهوى يوم عداه
مرقاب من مثلي بقلبه هشومي
وعينه على بعض الازاويل ماغراه
لولا الحيا لارقى طويل الرجومي
واصيح صوت كل من حولي اوحاه
ولا توضع الرجوم الحجرية إذا في أعالي مكونات الصحاري من باب العبث أو التسلية ، بل هي بلا شك تبين لسالك الطريق و للمار بها أنه يتجه الاتجاه الصحيح فلا يغفل عنها ، وبجانب الرجم قد يكون الرقيب أو من يكشف الطريق من علوه.
وما دمنا عرفنا الرجم وكونه حجارة متراصة ترفع بالقدر الذي يتمكن الناظر له من رؤيته بوضوح، فلا بد أن يتعرف على الحسي، حيث الارتباط عادة بين الاثنين بحسب ما ورد في المثل الشعبي .
فما هو الحسي ؟ والذي يسميه البعض ( حسو ) وما أهميته في الصحراء ؟
وللجواب على هذا لا نحتاج لكثير تبيان في إيضاح الأهمية ، فالصحراء خالية من الماء السطحي، والسفر فيها بدون ماء غير ممكن وهو يعني الهلاك، ولهذا تم استغلال كل قطرة في أرضها، سواء وقت المطر أو بعده.
ومن ذلك الكشف عن المياه التي تتجمع عادة تحت رمال وبطحاء الأودية مخزونة فيها وهي التي نطلق عليها مسمى الأحساء ، مفردها حسي.
فا ( الحسى ) في اللغة كما ورد في المعجم هو:
( السهل من الأرض يستنقع فيه الماء والرمل المتراكم تحته صلابة فإذا نزل المطر منع الرمل حر الشمس أن تنشفه ومنعته الصلابة أن يغور، فإذا حفر وجه الرمل عن ذلك الماء نبع بارداً عذباً ) انتهى.
وهذا ما نشاهده في الصحراء خاصة مجاري الوديان، حيث توجد تحت الرمال والتربية طبقة صلبة صخرية تمسك الماء ، تحمل ماء المطر حتى لا ينفذ عبرها إلى الأسفل، فهي غير منفذة للماء بسبب صلابتها وقلة مساماتها أي ثقوبها ، ونقول عنها صخرة أو طبقة صماء، ويكون فوقها تراكم أتربة ورمال وبطحاء ( حصباء ) يسهل حفر هذه الرمال حتى باليد حتى نصل إلى الماء ، ولا يكون العمق بعيدا عادة، حيث يصل في العادة حوالي متر أو إلى متر ونصف، ومخزون الماء في الحسي قليل بحسب ما تم حجزه وترسيبه في منخفضات الأودية، وهو أقل من مياه الآبار، كما أنه ماء غير متجدد ولهذا يسهل فسادة بعد كشف التراب عنه، إذ لا يكاد يكفي لموسم قادم .
بعض هذه الحسيان تكون موارد مؤقتة أثناء المسير وبعضها مكان إقامة الرحل من البادية والرعاة ، ولا نستغرب أن يكون لهم أماكن إقامة شبه دائمة رغم أنهم رحل يتبعون الكلأ، فهذا ما يحصل بالضبط ، حيث يكون لتنقلهم أماكن محددة قل أن يتجاوزوها لمسافات بعيدة، ففي نجد مثلا يكون ميدان بحثهم عن الكلأ في دائرة يصل قطرها إلى 200 كيلو فقط، كذلك سكان الشمال يكون الميدان دائرة مماثلة هناك، يمكن معرفة خطوط سيرهم وأماكن تواجدهم المتوقعة ولا يختلف عن ذلك إلا النادر، وهذا بالطبع في القديم وقبل وجود السيارات التي سهلك عملية التنقل وأصبح كل شيء سهلاً وتغير الكثير في وقتنا الحاضر.
وبالنسبة لحسيان الماء فإنها تكون معروفة وأشبه ببقية الموارد، ذات أهمية لهم وللمارين عليها، وتكون في حسبانهم وضمن خطة السير التي رسموها، فيرسمون أثناء مسيرهم خطة أو نية التوقف للتزود بالماء منها، سواء كان هذا التوقف عندها طويلا كأشهر الصيف، أو لحظة المرور فقط، ولهذا فمثل هذه الحسيان يتم طيها بالحجارة لحفظ جوانبها من الانهيارات، ولكي يسهل الاستقاء منها مباشرة أو بحبل قصير جدياً.
وقد رأيت بعض هذه الحسيان وبجانبها مقابر لعدد قليل مما يدل على أن المكان مأهول لفترة ليست قصيرة ولا مرور مؤقت ممن استخدمها ولا يستبعد أن يكون مثيله كثيراً في أرجاء الصحراء الواسعة، وهي تمثل بدايات التحضر في المكان، إذ من المتوقع أن يبدأ سكنى المكان من خلال الاستقرار على الماء وكلما حصل تزايد في وفرة الماء تكاثر الناس حوله، ولا ننس بداية نشوء كل مدينة وأنها بدأت بالطريقة نفسها، فإما نزل الركب أول مرة بجانب الوادي وأقاموا زراعتهم واستقراره وتحضرهم، أو حفروا حسيان الماء فصارت موارد مؤقتة، و لو عدنا إلى التاريخ لوجدنا قصة سكنى مكة المكرمة بدأت من نبع الماء ونزول القبائل حوله.
العمق قليل
إعداد وتصوير- ناصر الحميضي
جريدة الرياض
الإهداءات
19-05-2011, 03:42 PM
وخطو الولد رجم على غير حله
العرض العادي
