من أغراض الكسرة ذلك الفن الشعري الحجازي التعبير عن مواقف مثيرة تعترض الشاعر، فتحتدم داخله الأفكار للتعبير عن الموقف وصفا له أو شكوى منه أو استشارة حول مواجهته، وقد يكون اعجاباً أو استنكاراً وغير ذلك من ردود الفعل التي تشعل قريحة الشاعر.
ومن هذه المواقف أن فتى شاعراً خرج للصيد، وعند صعوده أحد الجبال فاجأ مروره خمس فتيات يرعين الغنم في ذلك الشعب، كن فيما بين الخامسة عشرة والعشرين من العمر. أربع منهن ألقين بأجسادهن بين الصخور اختباء عن الفتى، والخامسة ظلت واقفة لم ترهبها المفاجأة. ألقى الفتى التحية مواصلاً مسيره، إنه معروف لديهن فلم يكن تصرف المختبئات خوفاً أو وجلا، ولكنها المفاجأة والحياء.
وفي منتدى الحي مساء قال الفتى:
أخَيْر واحسن من اللي طاح
اللي بقى في ظفار يقه
اللي على بالج الاصباح
يفطّر اللى على ريقه
تداول الجلاس الكسرة دون معرفة لمثيرها، إلا أن الفتى عندما خلا بوالده شرح له الموقف وأبدى رغبته في الزواج من تلك الفتاة الحيية الواثقة، التي لم تجد نفسها في موقف يدعوها إلى الاهتزاز والاختباء. وتم للفتى ما تمنى.
وكلمة أخَيْر في الكسرة تعني أفضل، أما الظفاريق فجمع ظفروق وهو القمع الذي يمسك بالثمر في عذوق أو عناقيد النخل، ممثلا القوة في الاحتفاظ بالثمار.
والثقة معلم حميد في الانسان، وبخاصة المرأة التي يعهد لها بتربية الاجيال وغرس الثقة فيهم، بخلاف من يولّد فيها الحياء الاستسلام والضعف، فيزيدها ذلك استلابا لحقوقها في مجتمع ذكوري، ويضعفها عن بناء وتكوين الشخصية في التربية، وحياء بلا ثقة في النفس معطل لكثير من فضائل الإنسان، ووظائفه في الحياة. وهذا الفتى فضل الثقة قيمة اجتماعية تقوم عليها مؤسسة الحياة الزوجية أما الحياء فهو على يقين من تمتع الخمس فتيات بهذه القيمة، والحياء وحده لا يكفي إذ الثقة في النفس وقاء للحياء وعماد للحياة.
* * *
ومن المواقف النقدية في فن الكسرة أن الشاعر الينبعي "المجيدير" وهو من عمالقة شعراء الكسرة في ينبع طرح استفساراً في كسرته التالية:
يا اهل الهوى ما لقيتوا له
لاجل الهوى له معاني ضد
اللي تمادى بمفعوله
درّق على القلب ومجوّد
وقد راق لأحد شعراء الشباب في مجلس المجيدير تساؤل الشاعر فنقل الكسرة إلى مجلس والده، وكان في المجلس ضيف بدوي راق له أيضاً أن يجيب عن التساؤل فقال للفتى قل له:
بيِّن هواك انت وسن هوله
وليا تباين هواك نرد
لاَجْل الهوى كثرت شكوله
قد ايش ليا انك بغيت تعد
أخذ الفتى الكسرة هذه إلى المجيدير، فأعجب بالرد ولكنه أردف قائلاً: هذا ليس شعرك يا بني، فلو كان من شعرك لقلت: إيْش هو له كما نعبر نحن الحاضرة ولكنه شعر بدوي لقوله: وش هو له. قال الفتى: صدقت.
والهوى في كثير من حالاته سلطان يمتلك الافئدة، منه المحمود ومنه المذموم، والهوى الذي يتساءل عنه المجيدير ويعاني من تماديه وسيطرته على فؤاده هو هوى لم يبين طبيعته حتى تسهل المساهمة في طرح الحلول المناسبة لمساعدة الشاعر للتخفيف من معاناته، وهذا ما طلبه الشاعر الثاني، وهو أسلوب الحوار في المراسلات الشعرية استفسار وتوضيح حتى يضمن الشاعر الثاني طرح رأي سديد وإجابة مقنعة ترضي النقاد.
أما الموقف الثالث فكانت رسالة من شاعر يقضي أيام الصيف في قريته "النجيل" من ضواحي ينبع، وهي قرية صغيرة، ومنتجع مريح، إلا أن امكانياتها محدودة وبخاصة قبل أربعين عاماً، لذا يصف لصديقه "محمد" راحته ومعاناته فيقول:
يا "محمد" أنافْ أعز البط
آكل رطب مع لحم خرفان
لا غير ناقص عليه قسط
هو البلا مشرب الدخان
ونجيل ما احد بها يبسط
معزّله ما بها دكان
أقول قولي وانا في وسط
عشة وسعفها لها زنزان
لو كان لحظة زمان اغط
أقوم من صوتها فزعان
حياة القرية الوادعة يؤمها أبناؤها في الصيف، فيتم الاحتفاء بهم، وتنتعش الحياة الاجتماعية فيها، من الولائم والمسامرات، ويفضل الشباب قضاء أوقاتهم في عرائش من جريد النخل تقام داخل المزارع، ولهذه العرائش أصوات مقلقة عند هبوب الهواء مما يجعل النائم لا يخلد في نومه وتعمل العرائش على تلطيف الجو داخلها. ومع أن الكسرة لا تزيد على بيتين من الشعر إلا أن هذه رسالة شعرية على وزن الكسرة لا تحمل فكرة محددة أو موضوعاً هاماً فشفع لصاحبها أن تكون كذلك مقطوعة شعرية، وكلمة أغط بمعنى أغفو وهي كلمة فصيحة.
أما الموقف الأخير فقد يتعرض له كثير من الذين انتقلوا من البادية أو القرية إلى المدينة وعاشوا رفاهية لم يعهدوها من قبل، ثم عادوا إلى منشئهم منتقدين حياته، متذمرين من طبيعة حياة تذوقوها من قبل وعانوا منها غير منتقدين أو متذمرين من طبيعتها فيقول:
في دياركم صرت انا ما اطيق
تركت ما لي وما ليّه
مشيت انا من السعة للضيق
واحفيت أقدام رجليه
ولكن أصدقاءه الذين يعرفون ماضي حياته ورضاه بتلك الحياة يعيبون تنكره هذا فيجيبه أحدهم:
إسأل وفكر عساك تفيق
وتنيّر الدار الاصلية
إنته تعلمت جني الريق
نسيت خبط الرتيعية
وكلمة "تنيّر" تعود إلى صوابك وتدرك جذورك ونشأتك في هذه الربوع أشواكها وحشراتها وخشونة أرضها، وشظف الحياة فيها. أما جني الريق فرمز لنعومة المدينة. و"الرتيعية" شجرة شوكية من فصيلة الأكاسيا، من أقزام الشجر مسطحة السطح لعجزها عن النمو، تستخدم في تأديب الصبية بطرحهم على أعلاها فلا يؤذيهم شوكها كثيراً لقصره، ولكنهم يألمون ألم التربية, ويقوم صغار الرعاة بخبط ورشها وأوراقها للبهم والسخال وهو ما كان يفعله هذا المتمرد في صباه.
المصدر // جريدة الرياض : عبدالرحيم الاحمد