لم تستطع قوات الانتداب الفرنسي دخول قضاء "الرقة" حتى شهر كانون الثاني من عام /1922/م، وذلك بسبب المقاومة الشعبية التي أبداها أهل المنطقة، بتحريض من الثائر "رمضان باشا الشلاش"، أحد قادة الجيش العربي في حكومة الملك "فيصل" العربية، التي تأسست قبل دخول فرنسا إلى سورية.
وكان الأمير "حاجم بن مهيد"، أحد شيوخ عشيرة "الفدعان" من "عنزة" قد أعلن استقلال قضاء "الرقة" عن حكومة الانتداب، وشكل جيشاً كان يعرف بـ"زكرت حاجم"، وتصدى للقوات الفرنسية، وأقلق وجودها إلى حين انفض عقد هذه الدولة الوليدة التي تعتبر من أولى بواعث الوعي السياسي في المنطقة.
ترى كيف تشكلّت هذه الدولة الفتية، وما دوافع تأسيسها؟ وما الجهات التي آزرتها وساندتها؟ وللوقوف على أحوال دولة "حاجم بن مهيد"، بتاريخ (15/1/2010)، إلتقينا الباحث الرقي الأستاذ "محمد عبد الحميد الحمد"، الذي حدثنا بداية عن التاريخ الذي سبق الانتداب الفرنسي على سورية، قائلاً: «في /15/ أيار، سنة /1916/م دخلت منطقة وادي "الفرات" و"الجزيرة"، وولاية "الموصل" في منطقة النفوذ الفرنسية حسب معاهدة "سايكس بيكو"، وفي عام /1917/ أعيد قضاء "الرقة" إلى "دير الزور"، وفي /30/ أيلول عام /1918/ جاءت طلائع جيش الأمير فيصل مدينة "دمشق"، وفي /12/ تشرين الأول /1918/ سقطت مدينة "حلب"، ولم يبق في المدينة حكومة، وصار النهب والسلب، وفي يوم الجمعة /20/ تشرين الأول /1918/ دخلت "حلب" قوات غزو يرأسهم "مجحم بن مهيد" من "باب النيرب"، وقام حوالي /30/ فارساً من فرسان عشيرته بهجوم على سجن "حلب"، لكي يفكوا أسر المساجين، وتصادموا مع حراس السجن، لكن الحراس تغلبوا عليهم، وتركوا بعض قتلاهم، وكانت الشمس قد مالت إلى الغروب. وفي /26/ تشرين الأول /1918/ وُقعت في "لندن" معاهدة "سايكس بيكو" من أجل احتلال البلاد العربية».
ويتابع "الحمد" في السياق ذاته، قائلاً: «في أواخر عام /1919/ شُكل قضاء "الفرات" و"الخابور"، من "السبخة" و"معدان" و"الحسكة"، وعُيّن عليه "رمضان باشا الشلاش" حاكماً عسكرياً، وأرسل الأمير "فيصل" بن ملك العرب كتاباً إلى مأمور مخابرات "الرقة" الشيخ "فيضي الفواز" /1888-1973/ يطلب فيه تقديم مساعدة للحاكم "رمضان باشا شلاش".
وفي سنة /1920/ أصبحت "الرقة" قائمقامية تابعة لولاية "حلب"، بناء على المرسوم المؤرخ في /8/ تشرين الأول وتقرر
الشيخ حاجم بن مهيد
أن تكون تخوم "حلب": من الشمال: من سنجق "إسكندرونة" المستقل حتى "رأس العين". من الشرق: من نهر "الخابور" حتى انصبابه في نهر "الفرات". من الجنوب: من "البوكمال" حتى "تدمر" ثم الحدود الغربية الشمالية لولاية "الشام" العثمانية القديمة، ثم تلتقي بتخوم ولاية "دمشق". من الغرب: البحر الأبيض المتوسط ("اسكندرونة" و"أنطاكية" و"اللاذقية").
عندما وصل الأمير "فيصل" إلى "حلب" يوم /19/ نيسان عام /1919/ بعد عودته من "باريس" التقى بوجهاء مدينة "الرقة" وشيوخ العربان، كـ"حاجم بن مهيد"، و"مجحم بن مهيد"، و"حسين الدرويش البوحبال"، شيخ الحمرة، و"محمد الهويدي"، شيخ "العفادلة"، و"محمد الفرج السلامة"، شيخ "الولدة"، وفي يوم الجمعة /23/ تموز /1919/، جرى احتفال بقدوم الجنرال "دي لامونت". لم يحضره من وجهاء "الرقة" إلا الشيخ "محجم بن مهيد"».
وحول تأسيس دولة "حاجم بن مهيد" في "الرقة"، يقول "الحمد": «في /10/ آب /1920/ أعلن "حاجم بن مهيد" استقلال قضاء "الرقة" عن حكومة الانتداب الفرنسي بتحريض من "رمضان باشا الشلاش"، وبمساندة شيوخ "العفادلة"، وكانت هذه أول حركة وطنية ذات وعي سياسي عربي إسلامي، ولكن الأستاذ "عبد القادر عياش" له فيها رأي مغاير فهو يرى: "أن الأتراك أرادوا ضرب عشيرة "الملّية" الكردية، يقصد أولاد "إبراهيم باشا"، التي ساندت الفرنسيين، والتي تتاخم حدودهم في أعالي "الخابور" بلدة "ويران شهر"، فاتصلوا بأحد شيوخ عشيرة "الولد" من "الفدعان"، وهو "حاجم بن مهيد"، فجعلوه حاكماً على قضاء "الرقة"، وأحاطوه بأشخاص من أبناء "الرقة" من صنائعهم بصفة لجنة، وأطمعوه بأن يجعلوه أميراً على منطقة، يحدها شرقاً "الخابور"، وغرباً "جرابلس"، وشمالاً الخط الحديدي، وجنوباً بلدة "السخنة" الواقعة وسط الطريق بين "دير الزور" و"تدمر"، وله مهمتان، الأولى: المحافظة على هذه الحدود حتى لا يستولي عليها أعداء الإسلام والعرب. والثانية: أن لا يناصر العشائر "الملّية"، التي انضمت إلى الفرنسيين، وأن لا يقبل دخالتهم إذا لجأوا إليه».
ويضيف "الحمد"، مستذكراً الصراع بين قوات الانتداب ودولة "حاجم"، قائلاً:
الرقة في بداية القرن العشرين
«في شباط عام /1921/ أرسل الجنرال "ديلامونت" إلى الشيخ "حاجم بن مهيد" رسولاً كي يلاقيه في "حلب"، وأن يتخلى عن مناصرة الأتراك مقابل مئة ألف ليرة ذهبية، وراتباً شهرياً مدى الحياة، لكن "حاجم" رفض العرض قائلاً: "الفلوس والناموس لا يجتمعان"، واستمر "حاجم" بالمقاومة بالميلشيا التي أطلق عليها "زكرت حاجم"، وهاجم القوات الفرنسية في منطقة "الحص" جنوبي شرقي "حلب"، وأسقط المتطوع "جاسم المحمد الحمد الدللي" من عشيرة "البياطرة" طائرة فرنسية، وأسر طيارها، وأخذ منه سيفه وبدلته وأهديت إلى "حاجم"، ولكن قوات "حاجم" الضعيفة أمام تسليح دولة قوية انهارت وتراجعت إلى ما وراء نهر "الفرات"، وقد مرَّت القوات الفرنسية بقيادة الكابتن "ترانجيه"، يرافقه الشيخ "مجحم بن مهيد"، الذي قبل بالانتداب الفرنسي، ومضوا إلى "دير الزور"، ثم هاجموا "الرقة"، وفي /16/ كانون الثاني /1921/ انفرط عصيان "حاجم"، بعد تمرد دام /15/ شهراً، وفي /17/ كانون الأول /1921/ توجه "حاجم" نحو منطقة "طوال العبا" في أرض "الجزيرة"، وبعد محاكمة عسكرية أعفي عنه بعد أن وعد أن لا يتعرض لدولة الانتداب، وتوفي في "عين عيسى"، شمال "الرقة" بنحو /50/كم في عام /1927/م، ودفن فيها.
خاب أمل "حاجم" وأنصاره في "الرقة" بالأتراك بعد معاهدة "أنقرة" في /11/ تشرين الأول /1922/، وتم فيها الصلح بين تركيا والحلفاء».
وحول الصراع بين قبيلتي "شمر" و"الفدعان" لامتلاك "الرقة"، يقول "الحمد": «ظل الصراع القبلي بين قبيلتي "شمر" و"الفدعان" من "عنزة" من أجل امتلاك "الرقة"، ومما رواه الأديب الراحل الدكتور "عبد السلام العجيلي" عن هذه المرحلة: "إن ألوانا من السلوك القبلي، مما كانت تمارسه في بادية "الجزيرة" الفراتية في قرون الخراب والتصحر، ظلّت حيّة في أول زمن التحضر الجديد. ولا أزال شخصياً أحمل من ذكريات الصبا، مرور غزاة عشيرة "شمر" بـ"الرقة"، ومبيت طليعتهم ليلة واحدة فيها، موزعين كضيوف على دواوين البلدة. كانوا يتأهبون لمنازعة "الفدعان" و"الخرصة" من عشيرة "عنزة" في الصباح المقبل، وأذكر أن عقيد غزاة شمر الشيخ "دهام الهادي"، وهو آنذاك في أوج شبابه، كان نزيلاً في مضافة أسرتنا "العجيلي"، رأيته فيها يشرب القهوة ويتناول طعام العشاء قبل أن ينصرف إلى النوم محاطاً ببعض رجاله.. ثم انطلقوا عند الفجر مدججين بأسلحتهم إلى ساحة المعركة. حدث هذا في منتصف العشرينات، وإذا بي ذات يوم، أجد الشيخ "دهام الهادي" زميلاً لي على مقاعد مجلس النواب السوري في "دمشق"».
المراجع
تاريخ الاقطار العربية :لتوسكي ترجمة طارق معصراني دار التقدم موسكو\1971\
نهرالذهب :كامل الغزي المطبعة المارونية حلب\1926
الرقة كبرى المدن الفراتية :عبد القادرعياش دير الزور\1969\
الثورات والانقلابات :تيسير جيفي دمشق\1954\
المراجع:
1ـ "تاريخ الأقطار العربية"، "لوتسكي"، ترجمة "طارق معصراني"، دار "التقدم"، "موسكو"، عام /1971/.
2ـ "نهر الذهب"، "كامل الغزي"، المطبعة المارونية "حلب"، /1926/.
3ـ "الرقة" كبرى المدن الفراتية"، "عبد القادر عياش"، "دير الزور" /1969/.
4ـ الثورات والانقلابات"، "تيسير جيفي"، دمشق /1954/.