قوافل قطعت الصحراء تنقل البضائع و«الحنشل» يترصدون.. و«العطش» أفضى إلى الموت
طرق التجارة إلى نجد.. أرزاق «الفقر» و«الجوع»!
تسير القوافل مع دليل حاذق يعرف الطرق جيداً
تعد التجارة مهنة عريقة عرفها الإنسان منذ بدء وجوده، وتعامل معها كمصدر للعيش والحياة على مرّ العصور، وكما قيل "تسعة أعشار الرزق في التجارة"؛ لذا سعى لكسب الرزق الحلال، والسفر وقطع الفيافي والقفار بحثاً عن المال، وجني أكبر قدر من الأرباح.
وكان السفر في طريق التجارة يكتنفه العديد من الأهوال والمخاطر، حيث قلما تسلم قوافل التجار من نهب اللصوص، وإن نجت من ذلك فلا بد لها من التغلب على المفاجآت غير السارة كشح الماء أثناء الطريق؛ مما يؤدي الى هلاك المسافرين عطشاً، أو يضل الركب الطريق فيتيهون في الأرض؛ لذا تحرص كل قافلة على اصطحاب دليل حاذق بالطريق اتقاءً لهذه المحنة التي قد تصيبهم عند هبوب الرياح الشديدة وهطول الأمطار مثلاً، فيكون هو دليلهم إلى طريق النجاة والخلاص بقوافلهم التي تحمل بضائعهم.
«الفاو» نقطة التقاء حضارتي الشمال والجنوب وتجارة «العقيلات» وصلت إلى مناطق «الهلال الخصيب»
أشهر الرحلات التجارية
ومن أشهر رحلات التجارة التي عرفها التاريخ هي رحلة "الشتاء والصيف" -التي ذُكرت في القرآن الكريم-، وهاتان الرحلتان هما رحلة تجارة كبيرة كانت "قريش" تجهزهما في فصلين من السنة، إحداهما في الشتاء إلى بلاد "الحبشة"، تسلك طريقه إلى الحبشة ثم "اليمن"، حيث يبلغون بها بلاد "حمير"، والأخرى في الصيف إلى الشام، يبلغون بها مدينة "بصرى" من بلاد الشام، وقد أولت قريش التجارة أهمية كبيرة، ولا أدل من ذلك من عقد معاهدات تجارية مع "بيزنطية" و"فارس" و"الحبشة"؛ لتأمين تجارتها، ويعود الفضل في هذه المعاهدات والاتفاقيات في تنظيم الرحلات التجارية الكبرى إلى أولاد "عبد مناف" -زعيم قريش-، وكان قد سبق ل"هاشم" أن عقد معاهدة تجارية مع ملوك "الروم" و"الغساسنة"، وقيل إنّه سنّ رحلتي الشتاء والصيف وعقد ابنه "عبد شمس" اتفاقية تجارية مع "نجاشي الحبشة"؛ مما سهّل على تجار مكة الذهاب إلى أرض الحبشة بأمان واطمئنان، وكذلك عقد "نوفل بن عبد مناف" الآخر اتفاقاً مع الفرس، فضمن تجار "مكة" السفر إلى "العراق" و"فارس" بأمان، أمّا الابن الآخر المدعو "المطلب" فقد توصل إلى اتفاق مع ملوك "حمير" لتسهيل مرور تجار مكة ب"اليمن"، وبذلك نشطت التجارة الداخلية والخارجية في الحجاز بفضل هذه العلاقات.
التجار سلكوا «طريق البخور» الموازي للبحر الأحمر و«درب زبيدة» وسط الجزيرة.. و«الفرات» بحراً
تمويل وتشغيل
وشارك بعض سكان المدن والبادية في تمويل القوافل أو في تشغيل قسم منهم كأدلاء أو حراس للقوافل أو سائقين للإبل لقاء مبالغ محدودة من المال، وكذلك أفاد مقدمو الخدمات في المحطات التجارية المنتشرة على طول الطريق البرية أو في الثغور البحرية، وتحالف تجار من "الفرس" و"الروم" و"مكة" و"اليمن" و"نجد" مع الأثرياء، ومنهم من سكن في "مكة" مقابل دفع جزية نقدية لحمايته، ومنهم من استقر في "عدن" التي كانت تستقبل آنذاك السفن القادمة إليها من مختلف جهات المحيط الهندي، وكان كبار تجار قريش يلعبون دور الوسطاء التجاريين، وحملوا تجارة أهل "اليمن" وتجارة "افريقيا الشرقية" إلى أسواق بلاد "الشام"، وبالمقابل كانوا يحملون تجارة "الشام" إلى "الحجاز" و"نجد" و"اليمن"، كما نظم زعماء "قريش" حركة التبادل التجاري ووضعوا لها بعض القواعد والضوابط، وأنشأوا الأسواق الموسمية ومن بينها؛ "سوق عكاظ بين مكة والطائف"، و"سوق مجنَة العائد لبني كنانة وكان يقع في أسفل مكة"، و"سوق حباشة في تهامة"، و"سوق ذي المجاز قرب عرفة".
طرق رئيسة
وسارت القوافل عبر طرق رئيسة في شبه الجزيرة العربية محملة بالبضائع، وكان أشهر الطرق التي سلكها التجار في رحلاتهم التجارية؛ "طريق البخور" ويسمى "طريق العطور"، وهو الطريق البري الموازي للبحر الأحمر بين "اليمن" وبلاد "الشام"، عبر "الطائف" و"مكة" و"يثرب"، وتتفرع منه خطوط تتجه غرباً وشرقاً، بالإضافة إلى الطريق الذي ينطلق من جنوبي شبه الجزيرة العربية باتجاه الشمال وصولاً إلى "جرهاء"، ومنها إلى بلاد ما بين "النهرين" إمّا براً أو في قوارب تبحر في الخليج العربي، وصولاً إلى "نهر الفرات"، ومن هناك كانت البضائع تتوزع في أسواق المنطقة، إلى جانب الطريق الذي كان يخترق شبه الجزيرة العربية عرضاً، ويصل "مكة" بوادي "الرافدين"، ويتفرع عند "حائل" إلى فرعين أحدهما يصل إلى مصب نهر "الفرات" مروراً بعدد من الأماكن مثل "السِفن"، و"فيد"، وقد عُرف هذا الطريق لاحقاً باسم "درب زبيدة"، ويتجه الفرع الآخر شمالاً شرقاً ماراً ب"تيماء"، و"دومة الجندل"، وصولاً إلى وادي "الرافدين" عند مدينة "بابل" التاريخية، وهناك طريق بري آخر كان يمر في أقصى شمال شبه الجزيرة العربية، ويسير بمحاذاة "الفرات" حتى مدينة "ماري"، ويتجه غرباً إلى "تدمر" ومنها إلى "حمص دمشق" والموانئ السورية.
«الزبير» و«البصرة» و«بادية الشام» وجهة الباحثين عن «لقمة العيش» و«الزراعة»
التجارة إلى نجد
كان لموقع منطقة "نجد" في وسط الجزيرة العربية أهمية كبرى لاكتسابها شهرة واسعة في أعمال التجارة، حيث اكتسب تجارها خبرةً واسعة في التعامل مع القوافل التجارية التي تمر بها، وتتبادل معها السلع، ومن أشهر الطرق التي كانت تربط "نجد" بالتجارة؛ طريق "قرية كهل" -الفاو- التي كانت فيما مضى عاصمة لدولة "كندة"، ومحطةً تجارية في الطريق البري المتجه نحو الخليج العربي، كما كانت تحتضن صناعة النسيج، وصناعات حرفية أخرى؛ مما حقق لها ازدهاراً تجارياً كبيراً، وساعدها في سك عملتها الخاصة بها هي ووريثتها باسمها الجديد "الفاو"، التي تقع عند تقاطع "وادي الدواسر" مع جبال "طويق" عند مجرى قناة تدعى ب"الفاو"، ولا تبعد عن مدينة "الرياض" سوى (700 كم) من جنوبها الغربي، وتشرف على الحافة الشمالية-الغربية للربع الخالي، وهذا الموقع جعلها تقع على الطريق التجاري الذي يربط بين جنوبي شبه الجزيرة وشمالها الشرقي، مروراً بمنطقة "اليمامة" ومنطقة "زبيدة".
بقيت قوافل التجارة قاصدةً «نجد» حتى بعد اكتشاف النفط في المملكة
معرفة موارد الماء أهم ما يمنع هلاك القوافل
تحرص القوافل على زيارة سوق "الحساوية" واقتناء الملابس الجاهزة
حمال في سوق "المقيبرة" ينتظر طلبات التجار بحمل البضائع
يجد أهالي "نجد" ما يحتاجونه من بضائع في الأسواق
"نجد" ملتقى قوافل التجار من الشمال إلى الجنوب
سوق الزبير في العراق حيث كان وجهة كثير من أهل نجد قبل قرن من الزمن
وقد كشفت التنقيبات الأثرية التي أجريت عن بقايا عمرانية، ومقابر، ومعبد، ومركز لسوق تجاري واسع؛ وهو سوق كبير يبلغ طوله من الغرب إلى الشرق(30.75م)، ومن الشمال إلى الجنوب (25.20م)، ويحيط به سور ضخم مكون من ثلاثة أجزاء متلاصقة أوسطها من الحجر الجيري، أما الداخلي والخارجي فمن اللبن، ويتكون السوق من ثلاثة طوابق، وله سبعة أبراج، ومن الواضح أنّ السبب الرئيس لوجود هذه البلدة هو التجارة، فهي نقطة وصل بين حضارات الجنوب في "اليمن" و"حضرموت"، وبين حضارات "فارس" و"العراق" و"البحرين"، فالقوافل تخرج من مدن "سبأ" إلى "نجران" وإلى "الخرج" ومنها إلى "هجر".
المرور بالدرعية
واشتهرت "الدرعية" في عهد الدولة السعودية الأولى بأسواقها العامرة، حيث كانت ملتقى قوافل التجار في وقتها، إذ تمر بها قوافل التجارة التي تقطع الجزيرة العربية شرقاً، وغرباً، وشمالاً، وجنوباً، وتنيخ في سوقها العامر الذي يتبادل فيها تجارها بضائعهم مع التجار القادمين، كما يسيّر تجارها رحلات تجارية إلى عدد من المناطق في المملكة، خصوصاً إلى "الحجاز" وإلى "الأحساء"، كما أدى ازدهار "الدرعية" عاصمة الدولة السعودية الأولى إلى تطور التجارة داخل الجزيرة، وقد زارها المؤرخ "ابن بشر" في عهد "سعود"، وترك لنا وصفاً للمدينة حيث كتبولقد رأيت الدرعية بعد ذلك في زمن سعود، وما فيه أهلها من الأموال، وكثرة الرجال، والسلاح المحلى بالذهب والفضة، الذي لا يوجد مثله، والخيل الجياد، والنجايب العمانيات، والملابس الفاخرة، وغير ذلك من الرفاهيات ما يعجز عن عده اللسان، ويكل عن حصره الجنان والبنان، ولقد نظرت إلى موسمها يوماً في مكان مرتفع، وهو في الموضع المعروف بالباطن، بين منازلها الغريبة التي فيها آل سعود المعروفة بالطريف، ومنازلها الشرقية المعروفة بالبجيري التي فيها أبناء الشيخ، ورأيت موسم الرجال في جانب، وموسم النساء في جانب، وموسم اللحم في جانب، ومابين ذلك من الذهب، والفضة، والسلاح، والإبل، والأغنام، والبيع، والشراء، والأخذ، والإعطاء، وغير ذلك، وهو مد البصر، ولا تسمع فيه إلاّ كدوي النحل من النجناج، وقول بعت، وشريت، والدكاكين على جانبيه الشرقي والغربي، وفيها من الهدوم، والسلاح، والقماش).
وأضاف "ابن بشر" قائلاً: (وكانت قوة هذه البلد وعظم مبانيها وقوة أهلها وكثرة رجالها وأموالها لايقدر الوصف صفتها)، فلو ذهبت أعد رجالها وإقبالهم فيها وإدبارهم في كتائب الخيل والنجائب العمانيات، وما يدخل على أهلها من أحمال الأموال من سائر الأجناس التي لهم مع المسافرين من أهلها، ومن أهل الأقطار لم يسعه كتاب، وكان الداخل في موسمها لا يفقد أحداً من أهل الآفاق من "اليمن"، و"تهامة"، و"الحجاز"، و"عمان"، و"البحرين"، و"بادية الشام"، و"مصر"، وأناس من حاضرتهم، إلى غير ذلك من أهل الآفاق ممن يطول عدهم، هذا الداخل فيها، وهذا خارج منها، وهذا مستوطن فيها، وقد أثرى البعض بقدر هائل بمقاييس الجزيرة من التجارة، خصوصاً في سنوات القحط عندما ارتفعت الأسعار بدرجة كبيرة جداً، وكتب "بوركهاردت" قائلاً: (في نجد كانوا يتاجرون أساساً بالمواد الغذائية -وأكد منجين هذه المعلومات أيضاً- فالقبائل القادمة من أعماق البادية تشتري ما تحتاج إليه).
من الأحساء إلى نجد
كانت "واحة الأحساء" مصدراً من المصادر الرئيسة للتمور التي تمول منطقة "نجد"، وكان هناك طريق تجاري تقطعه القوافل ذهاباً وإياباً، وكانت القوافل التجارية القادمة من "الأحساء" تمول "نجد" بالتمور، ومن ثم تستبدل تلك البضاعة ببضائع أخرى من الجلود، والأقمشة، والكماليات التي لا تتوافر بالأحساء، فكانت منطقة "نجد" ملتقى للتجار الذين يستبدلون بضائعهم بما يتوافر في تلك الأسواق من بضائع أخرى، يشترونها ليذهبوا بها لبيعها في ديارهم إذا رجعوا إليها، وكانت القوافل تنطلق من مدينة "هجر" ب"الاحساء" مروراً ب"الصمان"، وهي منطقة صحراوية كبيرة يمرون فيها بعدد من موارد المياه، ويسمى مفردها "عدّ"، ومن ثم تصل إلى أطراف "الرياض" عن طريق "الجبيلة" لتحط رحالها في أسواق العاصمة "الرياض"، وقد وصف هذا الطريق الشاعر "سعد بن حجي" -رحمه الله- في قصيدة جميلة نقتطف منها:
يا عبيد شدوا للربع فوقهنّي
حراير قد جا لهن صيت وأخبار
من (هجر) قد الصبح جيشي مشنّي
وعقب الصلاة مطرقات على الغار
ويا زين بالصمان دفلاجهني
ويا ما حلا باكوارهن جر الأشعار
وباكر طلوع الشمس قد وردنّي
عدن عليه ورود بدو وحضّار
والى تقهويتم وهن بردنّي
شيلوا على الذربات طفحات الاكوار
شيلوا عليهن جعلهن يسلمنّي
الله يكافي عنهن آفات الأشرار
ويا بو حسن داروا على أرسانهنّي
تراه في خد هباطات و أوعار
ويا زين عند عريض درهامهنّي
وكميت يزمي شايفينه بالأنظار
رفرف سعدهن وانبثر شرهنّي
إلى وطن رسم جانب الدار
وعقب العصير ركابكم بركنّي
في دار من هو يكرم الضيف والجار
قوافل العقيلات
لعبت "العقيلات" دوراً مهماً في تنشيط التجارة منذ أكثر من أربعة قرون، وربطت منطقة "نجد" بالتحديد تجارياً بالعالم الخارجي، فقد كانت قوافل العقيلات الرئيسة تنطلق من عدة مدن في الجزيرة العربية وخارجها، متجهةً إلى منطقة "الهلال الخصيب" في "العراق" و"الشام" و"فلسطين" و"مصر" و"السودان"، وأول ما بدأت هذه القوافل العقيلية من شرق الجزيرة العربية من موانىء "العقير" و"القطيف" ومن مدينة "الأحساء"، ثم توسع هذا الامتداد غرباً ليشمل مدينة "الرياض" في منطقة "اليمامة"، ومدينة "شقراء" في "الوشم"، ومدينة "المجمعة" و"الزلفي" في "سدير"، ثم مدينة "بريدة"، ومدينة "عنيزة" في "القصيم" ثم مدينة "حائل" بمنطقة جبل "شمر"، ثم داخل الجزيرة العربية عدا المدينتين المقدستين "مكة المكرمة" و"المدينة المنورة".
وأهم المنطلقات خارج الجزيرة العربية؛ مدينة "الزبير"، ومدينة "البصرة"، وهذه الانطلاقات تتجه إلى "بغداد" و"الموصل" و"النجف" ب"العراق"، و"دمشق" و"حلب" ب"سوريا"، و"عمان" و"الزرقاء" بشرق "الأردن"، و"حيفا" و"يافا" و"غزة" و"رفح" ب"فلسطين"، و"بلبيس" و"الزقازيق" و"الكرية" و"حلمية الزيتون" و"إمبابة" ب"مصر"، و"الأبيض" و"أم درمان" ب"السودان"، تنطلق القوافل بحركة دائبة بين أقطار الوطن العربي في هذه البقعة دون حدود سياسية، أو عوائق مصطنعة، وتكون شبكة متواصة لتسويق الأعداد الهائلة من الثروة الحيوانية في الجزيرة العربية، من نجائب الإبل، وكرائم الخيل، وأصائلها، وعرابها، والعودة بالسلع من تلك الأجزاء من الوطن العربي إلى مهد العروبة في قلب الجزيرة العربية.