قبل أكثر من 600 عام كان لكلية الطب الباريسية أصغر مكتبة في العالم، حيث أنها لاتحتوي إلا على مؤلف واحد فقط، وهذا المؤلف كان لعالم عربي كبير.
و كان هذا الأثر العلمي الضخم يضم كل المعارف الطبية منذ أيام الإغريق حتى عام 925 بعد الميلاد، و قد ظل المرجع الأساسي في أوزوبة لمدة تزيد عن الأربعمائة عام، حتى أن الباريسيين قد اعترفوا بقيمة هذا الكنز العظيم و بفضل صاحبه عليهم و على الطب إجمالا، فأقاموا له نصبا في باحة القاعة الكبيرة في مدرسة الطب لديهم.
فمن هو هذا العالم إذن؟؟؟
إنه أبو بكر محمد بن زكريا أو كما نعرفه جميعا باسم الرازي أو رازاس (Rhazes) كما سمته بلاد الغرب، ولد في مدينة الري الفارسية و درس الرياضيات و الفلسفة و الفلك و الكيمياء و المنطق و الأدب إلا أنه أختار الطب كمجال لعمله المهني حيث درس الطب في بغداد.
و بعد إتمام دراساته الطبية، عاد الرازي إلى مدينة الري بدعوة من حاكمها، منصور بن إسحاق، ليتولى إدارة مستشفى الري. وقد ألف الرازي لهذا الحاكم كتابه “المنصوري في الطب” ثم “الطب الروحاني” وكلاهما متمم للآخر، فيختص الأول بأمراض الجسم، والثاني بأمراض النفس. شغل مناصب مرموقة في الري وسافر ولكنه أمضى الشطر الأخير من حياته بمدينة الري، وكان قد أصابه الماء الأزرق في عينيه (Glaucoma)، ثم فقد بصره وتوفى في مسقط رأسه سنة 925م.
وكان حصاد هذه الحياة الحافلة التي عاشها عظيما هائلا، فهناك أكثر من 200 عمل ضخم و ترجمات و مخطوطات صغيرة لا تتناول الطب فحسب بل أيضا الفلسفة و الفلك و الفيزياء و الرياضيات و العلوم الدينية.
من أشهر كتبه و أهمها:
- كتاب “الحاوي” أو (Continens) و هو مؤلف يقع في 30 جزءًا، جمعت كل المعارف التي توصل إليها العقل البشري من أيام أبو قراط و حتى أيامهم هم. فقد قرأ كل ما وصلت إليه يداه من كتب الطب الأغريقية و الفارسية و الهندية و العربية ونقل منها فقرات كاملة و زاد عليها الكثير شارحًا وجهات نظره في كل منها، مستعينا بتجاربه الخاصة في تفصيلها و تفصيل غيرها.
- كتاب “المنصوري” و الذي جمع فيه وصف كل أمراض الجسم من الرأس إلى القدم و فنّد ظواهرها و تطورها و علاجها.
- و كان له كتاب اشتهر بين الناس باسم “طب الفقراء” حيث كان قاموسًا طبيًا شعبيًا، كتب فيه و صف لكل الأمراض و أعراضها و طرق علاجها و وسائلها الموجودة في كل بيت.
- كما أنه له كتاب عجيب يعرف بـ “برء الساعة” حيث أن لهذا الكتاب قصة طريفة قفد زعم جَمْعٌ من الأطباء في حضرة الوزير أبي القاسم مرةً أن علاج الأمراض يدوم طويلا، فرد عليهم الرازي أنه يستطيع علاج الكثير من الأمراض في ساعة واحدة و أنهم لم يقولوا ما قالوه إلا رغبة منهم في الربح المادي و استزاف أموال المرضى، فأبدى الوزير تعجبه من قوله و طلب منه تاليف كتاب بهذا المعنى حتى يكون مرجعًا للأطباء، فاستجاب الرازي لطلبه فكان مولد هذا الكتاب.
و من مؤلفاته المهمة:
رسالته “عن الجدري و الحصبة” قفد كان الكتاب الأول في العالم الذي يصف الحصبة و الجدري وصفًا دقيقًا حيث تمت ترجمته عدة مرات إلى اللغة اللاتينية و غيرها من اللغات الأوربية.
هذه نبذة بسيطة جدًا عن حياة الرازي و ذكر لبعض أشهر مؤلفاته … استمتعت كثيرا و أنا أكتب هذا الموضوع حيث أبهرتني و ذهلتني دقة الملاحظة الخرافية التي كان يتمتع بها الرازي و ظهرت جلية في وصفه و ملاحظته لأعراض الأمراض التي كان يدرسها على اختلافها .. كما تلاحظون في الوريقة التالية:
و كان الرازي يجرب كل العقاقير الجديدة قبل أن يصفها للناس، فيدرس تنائجها على الحيوان، و يستخلص منها النتائج الصائبة..
و لم يكن الرازي ذاك الطبيب العظيم فقط ، بل كان أيضًا أحد الأوائل الذين جعلوا من الكيمياء علمًا صحيحًا…
وكان أول من فكر بمعالجة المرضى الذين لا أمل في شفائهم و اهتم بهم كل الاهتمام.. و هكذا فإن على الطبيب- حسب رأي الرازي- أن يسعى دومًا إلى بث روح الأمل و قوة الحياة في نفس المريض مهما كانت حالته.
في شخصية الرازي الطبيب تتجسد كل ما امتاز به الطب العربي و ماحققه من انجازات و فتوحات علمية باهرة، فهو الطبيب الذي عرف واجبه حق المعرفة، و هو الطبيب العملي الذي يعطي للمراقبة السريرية أهميتها و حقها، و هو المنهجي في عمله الذي أضفى على الطب في عصره نظامًا رائعًا و وضوحًا يثير الإعجاب…
((منقول))