الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلام على رسولِ اللهِ، وعلى آله وصَحبهِ ومَنْ والاه، واتَّبع هُداه.أمَّا بَعْد:
فهذه ورقات مجموعةٌ مفيدةٌ في (صلاة التراويح)، وأحكامها الشرعية -على وجه الاختصار-؛ راجين الله -تعالى- أن ينفع بها.
1- فضلها: قد جاء فيه حديثان :
الأول: عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال : كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يُرَغِّبُ في قيام رمضان، من غير أن يأمرهم بعزيمة، ثم يقول : ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه)).
والآخر : حديث عُمر بن عَمرو بن مرة الجُهَني، قال:
جاء رسولَ الله –صلى الله عليه وسلم- رجلٌ من قُضاعة، فقال: يا رسول الله! أرأيت إن شهدتُ أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليتُ الصلوات الخمس، وصمت الشهر، وقمت رمضان، وآتيتُ الزكاة ؟ فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: ((من مات على هذا كان من الصِّدِّيقين والشهداء)).
2- مشروعيتها:
تشرع صلاة التراويح جماعةً؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها-: ((أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- خرج ليلة في جوف الليل، فصلّى في المسجد، وصلّى رجالٌ بصلاته، فأصبح الناس، فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم، فصلّى فصلَّوا معه، فأصبح النّاس، فتحدثوا، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فصلّى بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، حتى خرج لصلاة الصبح، فلمَّا قضى الفجرَ أقبل على الناس، فتشهد، ثمَّ قال: ((أما فإنه لم يَخْفَ عليَّ مكانُكم، ولكني خشيتُ أن تُفرض عليكم، فتعجزوا عنها))، فتوفي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- والأمر على ذلك.
فلمّا لحق رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بجوار ربه استقرَّت الشريعة، وزالت الخشية، وبقيت مشروعيَّة صلاتها جماعة قائمة لزوال العلَّة؛ لأنَّ العلَّة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً.
وأحيى هذه السنَّةَ الخليفةُ الراشدُ عمر بن الخطاب، كما أخبر بذلك عبدالرحمن بن عبدٍ القاريُّ، قال: ((خرجتُ مع عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه- ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرِّقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل، فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثمَّ عزم فجمعهم على أُبيِّ بن كعب، ثمَّ خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، وكان الناس يقومون أوله)).
3- عدد ركعاتها:
اختلف الناس في تحديد ركعاتها، والقول الموافق لهدي محمد –صلى الله عليه وسلم-: أنها ثمان ركعات دون الوتر؛ لحديث عائشة
-رضي الله عنها-: ((ما كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة)).
وقد وافق عائشةَ -رضي الله عنها- جابرُ بنُ عبدالله
-رضي الله عنه- فذكر: ((أن النبي –صلى الله عليه وسلم- لما أحيى بالناس ليلة في رمضان صلَّى ثماني ركعات وأوتر)).
ولما أحيى عمر بن الخطاب هذه السُّنَّة جمع الناس على أحدى عشرة ركعة؛ وَفْقاً للسنّة الصحيحة كما رواه مالك (1/115) بسند صحيح عن السائب بن يزيد، أنه قال: ((أمر عمر بن الخطاب أبيَّ بن كعب وتميماً الداريَّ أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، قال: وقد كان القارئ يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد على العصيِّ من طول القيام وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر)).
الأصلُ التزام الإحدى عشرة ركعة، والدليل على ذلك:
لقد تبين لكل عاقل منصف أن هَدْيَ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم- أنهم صَلَّوُا التراويح إحدى عشرةَ ركعةً، وأنه لا يصحُّ عن أحد مِن الصحابة صلاة التراويح بعشرين ركعة، وأنه ثبت عن عمر -رضي الله عنه- الأمر بصلاتها إحدى عشرة ركعة، وهذا كله مما يمهد لنا السبيل لنقول بتوكيد التزام هذا العدد، وعدم الزيادة عليه اتباعاً لقوله –صلى الله عليه وسلم-: (( . . . فإنه من يعش منكم من بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)).
ولما كان الحديث المذكور قد بين لنا المخرج مِن كل اختلاف تقع الأمة فيه، وكانت هذه المسألة مما اختلفوا فيه وجب علينا الرجوع إلى المخرج، وهو التمسك بسنته –صلى الله عليه وسلم-؛ وليست هي هنا إلا الإحدى عشرة ركعة، فَلَزِمَ الأخذ بها وترك ما يخالفها، ولا سيما أن سنة الخلفاء الراشدين قد وافقتها، ونحن نرى أن الزيادة عليها مخالفة لها؛ لأن الأمر في العبادات على التوقيف والاتباع، لا على التحسين العقلي والابتداع.
جاء رجل إلى ابن عباس فقال : إني وصاحبٌ لي كنا في سفر، فكنت أُتِمّ وكان صاحبي يقصر، فقال له ابن عباس : ((بل أنت الذي كنت تقصر، وصاحبك الذي كان يتم)).
وهذا مِن فقه ابن عباس -رضي الله عنه- حيث جعل التمام والكمال في اتباع النّبيّ –صلى الله عليه وسلم-، وجعل النقص والخلل فيما خالفها، وإن كان أكثر عدداً! كيف لا وهو الذي دعا له رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بقوله : ((اللهم فَقِّهه في الدين وعلِّمه التأويل))؟
* وله أن ينقص منها، حتى لو اقتصر على ركعة الوتر فقط، بدليل فعله –صلى الله عليه وسلم- وقوله :
أما الفعل، فقد سُئلت عائشة -رضي الله عنها-: بكم كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يوتر؟ قالت :
((كان يوتر بأربع وثلاثٍ، وست وثلاثٍ، وعشر وثلاثٍ، ولم يكن يوتر بأنقص من سبعٍ، ولا بأكثر من ثلاث عشرة)).
وأما قوله –صلى الله عليه وسلم- فهو: ((الوتر حق، فمن شاء فليوتر بخمس، ومن شاء فليوتر بثلاث، ومن شاء فليوتر بواحدة)).
4- مشروعية الجماعة للنساء :
ويشرع للنساء حضورها، بل يجوز أن يُجْعَـلَ لهن إمام خاص بهن، غير إمام الرجال، فقد ثبت أن عمر -رضي الله عنه- لما جمع الناس على القيام، جعل على الرجال أُبَيَّ بن كعب، وعلى النساء سليمان بن أبي حثمة، فعن عَرْفَجَة الثقفي، قال: ( كان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يأمر الناس بقيام شهر رمضان، ويجعل للرجال إماماً وللنساء إماماً، قال : فكنت أنا إمام النساء).
5- القراءة في القيام :
وأما القراءة في صلاة الليل في قيام رمضان أو غيره، فلم يَحُدَّ فيها النبي –صلى الله عليه وسلم- حداً لا يتعداه بزيادة أو نقص، بل كانت قراءته –صلى الله عليه وسلم- فيها تختلف قِصَراً وطولاً، فكان تارة يقرأ في كل ركعة قدر {يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّل}، وهي عشرون آية، وتارة قدر خمسين آية، وكان يقول: ((من صلى في ليلة بمئة آية لم يُكْتَبْ من الغافلين)) .
وفي حديث آخر: ((... بمئتي آية؛ فإنه يكتب من القانتين المخلصين)).
وقرأ –صلى الله عليه وسلم- في ليلة وهو مريضٌ السبع الطوال، وهي سورة (البقرة)، و (آل عمران)، و (النساء)، و (المائدة)،
و (الأنعام)، و (الأعراف)، و (التوبة) .
وفي قصة صلاة حذيفة بن اليمان وراء النبي -عليه الصلاة والسلام-: أنه –صلى الله عليه وسلم- قرأ في ركعة واحدة (البقرة)، ثم (النساء)، ثم (آل عمران)، وكان يقرؤها مُترسِّلاً مُتَمِّهلاً.
وثبت بأصحِّ إسناد أن عمر -رضي الله عنه- لما أمر أُبيَّ ابن كعب أن يصلي للناس بإحدى عشرة ركعة في رمضان، كان أُبيٌّ -رضي الله عنه- يقرأ بالمئين، حتى كان الذي خلفه يعتمدون على العِصِي من طول القيام، وما كانوا ينصرفون إلا في أوائل الفجر.
وصحَّ عن عمر -أيضاً- أنه دعا القـُرَّاءَ في رمضان، فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأ ثلاثين آية، والوسط خمساً وعشرين آية، والبطيء عشرين آية.
وعلى ذلك؛ فإنْ صلّى القائم لنفسه فليُطوِّل ما شاء، وكذلك إذا كان معه من يوافقه، وكلما أطال فهو أفضل، إلا أنه لا يبالغ في الإطالة حتى يُحيي الليل كله إلا نادراً، اتباعاً للنبي –صلى الله عليه وسلم- القائل: ((وخير الهدي هدي محمد)).
وأما إذا صلّى إماماً، فعليه أن يطيل بما لا يشقُّ على مَنْ وراءه لقوله –صلى الله عليه وسلم-: ((إذا قام أحدكم للناس فليخفف الصلاة، فإن فيهم ( الصغير) والكبير وفيهم الضعيف، و (المريض)، (وذا الحاجة)، وإذا قام وحده فليُطِل صلاته ما شاء)).
6-- وقت القيام :
ووقت صلاة الليل من بعد صلاة العشاء إلى الفجر، لقوله –صلى الله عليه وسلم- : ((إن الله زادكم صلاة، وهي الوتر، فصلوها بين صلاة العشاء إلى صلاة الفجر)).
والصلاة في آخر الليل أفضلُ لمن تيسَّر له ذلك؛ لقوله –صلى الله عليه وسلم-: ((من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإنَّ صلاةَ آخر الليل مشهودةٌ وذلك أفضل)).
وإذا دار الأمر بين الصلاة أول الليل مع الجماعة، وبين الصلاة آخرَ الليل منفرداً، فالصلاة مع الجماعة أفضل، لأنه يُحْسَبُ له قيام ليلة تامة كما ثبت عن النبي –صلى الله عليه وسلم-.
وعلى ذلك جرى عملُ الصحابة في عهد عمر -رضي الله عنه-.
7- الكيفيات التي تصلى بها صلاة الليل :
الكيفية الأولى: ثلاث عشرة ركعة، يفتتحها بركعتين خفيفتين، وهما على الأرجح سنة العشاء البعدية، أو ركعتان مخصوصتان يفتتح بهما صلاة الليل، ثم يصلي ركعتين طويلتين جداً، ثم يصلي ركعتين دونهما، ثم يصلي ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم يصلي ركعتين دونهما، ثم يصلي ركعتين دونهما، ثم يوتر بركعة.
الثانية : يصلي ثلاث عشرة ركعة، منها ثمانية يُسلِّم بين كل ركعتين، ثم يوتر بخمس لا يجلس ولا يسلِّم إلا في الخامسة.
الثالثة: إحدى عشرة ركعة، يسلِّم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة.
الرابعة: إحدى عشرة ركعة، يصلّي منها أربعاً بتسليمة واحدة، ثم أربعاً كذلك، ثم ثلاثاً .
الخامسة: يصلي إحدى عشرة ركعة، منها ثماني ركعات لا يقعد فيها إلا في الثامنة، يتشهد ويصلي على النبي –صلى الله عليه وسلم-، ثم يقوم ولا يسلِّم، ثم يوتر بركعة، ثم يسلِّم، فهذه تسع، ثم يصلي ركعتين، وهو جالس.
السادسة: يصلي تسع ركعات منها ست لا يقعد إلا في السادسة منها، ثم يتشهد ويصلي على النبي –صلى الله عليه وسلم- ثم ...
إلى آخر ما ذُكر في الكيفية السابقة .
… هذه هي الكيفيات التي ثبتت عن النبي –صلى الله عليه وسلم- نصاً عنه، ويمكن أن يُزاد عليها أنواع أخرى، وذلك بأن ينقص من كل نوع منها ما شاء من الركعات حتى يقتصر على ركعة واحدةٍ؛ عملاً بقوله –صلى الله عليه وسلم-:
((...فمن شاء فليوتر بخمس، ومن شاء فليوتر بثلاث، ومن شاء فليوتر بواحدة)).
فهذه الخمس والثلاث، إن شاء صلاها بقعود واحد، وتسليمة واحدة كما في الصفة الثانية، وإن شاء سلَّم من كل ركعتين كما في الصفة الثالثة وغيرها، وهو الأفضل.
وأما صلاة الخمس والثلاث بقعود بين كل ركعتين بدون تسليم فلم نجده ثابتاً عنه –صلى الله عليه وسلم-، والأصل الجواز، لكن لما كان النبي –صلى الله عليه وسلم- قد نهى عن الإيتار بثلاث، وعلَّل ذلك بقوله: ((ولا تشبهوا بصلاة المغرب))؛ فحينئذ لا بد لمن صلى الوتر ثلاثاً من الخروج عن هذه المشابهة، وذلك يكون بوجهين :
أحدهما: التسليم بين الشفع والوتر، وهو الأقوى والأفضل.
والآخر: أن لا يقعد بين الشفع والوتر.
… هذا آخِرُ ما أعان الله -تعالى- عليه، على وجه التلخيص والاختصار؛ في فضل (صلاة التراويح) وأحكامها؛ سائلين الله -تعالى- التوفيق والسداد، والهدى والرشاد.